دالتون ترامبو من علامات حقبة سوداء في هوليوود. بعد السجن والمنفى، كتب سيناريوهاته بأسماء مستعارة، وفاز مرّتين بالأوسكار! الفيلـم الـذي يحمل اسمه يستعيد تلك الحقبة الحالكة التي شهدت اضطهاد همفري بوغارت وتشارلي تشابلن وجوزف لوزاي... بتهمة التآمر على أميركا!
محمد رضا
غالباً ما يجد الفيلم الوثائقي صعوبةً في السفر خارج بلده، أما في عالمنا العربي، فهو لا يستطيع حتّى أن يشق طريقه إلى صالات العرض التجاريّة. Trumbo هو عنوان أحد الأفلام الوثائقية المهمّة التي تنزل إلى الصالات الأميركية هذا الأسبوع، ونتمنّى أن يعرض يوماً على الشاشات العربيّة، ولو في أحد مهرجانات السينما المتكاثرة، خلال السنوات الأخيرة، في هذه المنطقة.يعود الشريط مجدداً إلى جرح ما زال مفتوحاً في الضمير الأميركي، ألا وهو المكارثيّة، من خلال قصة كاتب السيناريو المعروف دالتون ترومبو (1905ــــــ1976) الذي كان أحد العشرة الممنوعين من العمل في هوليوود بسبب ميوله اليسارية في تلك الفترة الحالكة من حياة هوليوود. الشريط أخرجه بيتر أسكِن بعدما اقتبس مسرحية كتبها كريستوفر ترومبو، ابن دالتون، وقّدمها على الخشبة قبل أربع سنوات عن حياة والده ومكابداته في هوليوود في ذلك الحين.
يأتي الشريط بممثلين معروفين يقرأون رسائل دالتون ترومبو إلى شخصيات من داخل الوسط السينمائي وخارجه. من هؤلاء الممثلين، ديفيد سترايذرن، ليام نيسون، ناتان لاين ومايكل دوغلاس الذي كان لوالده كيرك دوغلاس الفضل في إعادة الاعتبار إلى دالتون، حين أنتج فيلم ستانلي كوبريك «سبارتاكوس» (1960) وقرر وضع اسم دالتون عليه، الأمر الذي كانت تخشاه هوليوود بسبب الحرب التي شُنّت ضده مطلع الخمسينيات، عزّ الحملة المكارثية.
هؤلاء الممثلون لا يقرأون الرسائل فقط، بل يشاركون في إبداء الرأي في ما يعني لهم دالتون ترومبو، ونظرتهم إلى ما حدث في تلك الفترة، حين أطلق السناتور الجمهوري جوزيف مكارثي «حملة الخوف» في الخمسينيات، التي اضطهدت عشرات المثقفين والفنانين والكتّاب اليساريين أو الليبراليين والنقديين وأسكتتهم وهجّرتهم بتهمة التآمر على المصالح الأميركيّة.
نحن في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، التي شهدت ازدياد تأثير النقابات والاتحادات العمّالية من جهة، وخروج أميركا من سنوات اليأس الاقتصادي مذعورةً من نظامها من جهة أخرى. أضف إلى ذلك شيوع الأفلام والمسرحيات التي «تنتقد» النظام الأميركي حينها. هكذا، أُنشئ عام 1947 مجلس من أعضاء الكونغرس لمحاكمة يساريّي هوليوود (لجنة النشاطات المعادية لأميركا). ويذكر الفيلم عدداً من تلك المحاكمات وجلسات التحقيق مع مئات السينمائيين.
المحكمة الأولى وقعت في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من ذلك العام، حين استُجوب دالتون ترومبو، المعروف بميوله اليسارية. القرار بتجريم عشرة اتخذ أولاً اسم «الهوليووديون العشرة» وتبعه صدور بيان موقّع من أقطاب الشركات الهوليوودية يؤكدون أنّ هوليوود لن تكون «وسيلة للخطط الشيوعية وقلب نظام الحكم الأميركي». وعليه، لن يتعاونوا مع كل مَن تثبت إدانته خلال المحاكمات. ثم استمرّت المحاكمات لتشمل «اللائحة السوداء» شخصيات معروفة، أمثال جون هيوستون، همفري بوغارت، تشارلي تشابلن، إيليا كازان، إدوارد ديمتريك وجوزف لوزاي وجول داسين وجون غارفيلد...
أحد العشرة الذين دخلوا السجن عام 1950 كان المخرج إدوارد ديمتريك الذي اعترف بانتمائه إلى الحزب الشيوعي، ثم وعد بالتعاون مع لجنة التحقيق. كما سُجن المنتج أدريان سكوت الذي أنتج أربعة أفلام من إخراج ديمتريك، منها «مرمى النار» الذي تناول قصّة مجنّد يميني يقتل زميله لأنه مختلف عقائدياً عنه. رسالة لم تمر بسهولة في “الفلتر” المكارثي.
وكذلك فعل الممثّل سترلينغ هايدن الذي عارض المحاكمات. لكن بعدما أدرك عواقب ذلك، تراجع وأدلى بشهادات أساءت إلى عدد من زملاء المهنة. إيليا كازان قرر بدوره التعاون وسلّم عدداً من رفاقه وزملائه اليساريين. وعاد إلى تلك الفترة المؤلمة بعدها بسنوات، في فيلم أواخر الستينيات بعنوان The arrangment.
لكنّ هناك عدداً كبيراً من السينمائيين أيّدوا المحاكمات، ولم يعيشوا عزلة كازان بعد “الوشاية”، وخصوصاً مالكي شركات الإنتاج الكبرى والمنتجين المرموقين أمثال جاك وورنر، لويس ب. ماير، إرفينغ تولبيرغ ووولت ديزني. بالإضافة إلى عدد من الممثلين المعروفين، في مقدّمتهم جون واين ورونالد ريغان الذي كان منخرطاً في الحزب الديموقراطي إبان المحاكمات، ثم انتقل لاحقاً إلى الحزب الجمهوري.
وفي حين فرّ جوزف لوزاي وجول داسين وتشارلي تشابلن من أميركا إلى أوروبا (الغربية)، اكتفى آخرون، ومعظمهم من الكتّاب، بالتوقف عن العمل. ومن بينهم دالتون ترومبو الذي يرى أن «رجل اسمه جو» من كلاسيكياته، وقد أخرجه فكتور فليمنغ ويطرح أسئلة عن أخلاقيات الحرب. وبينما توقّف هربرت بايبرمان ولستر كول، عادا للكتابة في النصف الثاني من الخمسينيات بأسماء مستعارة.
يأتي فيلم ستيف أسكن على ذكر هذه التواريخ، بينما يتابع الممثّلون قراءة رسائل ترومبو المثيرة للشجن. في إحدى الرسائل، يُدين الكاتب تخاذل المنتجين واستجابتهم لوصايا “لجنة النشاطات المعادية لأميركا”. بينما يناشد في رسالة أخرى، أستاذاً لمساعدة ابنته الصغيرة على تجاوز محنتها الناتجة من تحاشي الطلاب الحديث معها. لكنّها لم تكن محنتها وحدها. فبعد الإفراج عن أبيها، حاول الأخير التعايش مع وضعه الجديد، لكنّه لم يستطع، فهاجر إلى المكسيك مع عائلته، ثم عاد إلى أميركا ليكتب سيناريوهاته باسم مستعار.
اثنان من سيناريوهات ترومبو فازا بالأوسكار حينها. في 1954، فاز «عطلة في روما» (إخراج وليام وايلر) بأوسكار أفضل سيناريو، مُنحت للكاتب البريطاني إيان مكيلان الذي اضطرّ لقبول اللعبة ولم يكشف أنّه لم يكن سوى «واجهة» لدالتون ترومبو. والمرّة الثانية كانت عام 1957 عندما فاز «الشجاع» الذي أخرجه إرفنغ رابر بالأوسكار. الاسم الوارد على جنريك الفيلم يومذاك كان روبرت ريتش. والاسم الذي نودِيَ عليه لاستلام الجائزة كان روبرت ريتش... لكنّ روبرت ريتش لم يتقدّم لأنه لم يكن هناك من روبرت ريتش أصلاً، بل كان هناك دالتون ترومبو. ولم يستطع هذا الأخير التقدّم لنيل الجائزة إلا عام 1975 عندما استلمها في حفلة خاصة قبل عام واحد على وفاته.