أنسي الحاجبصرف النظر عن المواقف السياسيّة، أحرّ التهنئة لكُتّاب الزوايا اليوميّة في الصحف. أنيس منصور وسمير عطا الله والياس الديري وجهاد الخازن، وغيرهم من أشباه اليوميين أمثال حازم صاغيّة ودلال البزري، والأسبوعيين الذين ليتهم يصيرون يوميّين كأحمد عيّاش وغاضب العالَمين الدكتور أسعد أبو خليل (والأخير تقرأه فتمسك قلبك مخافة أن تكون، في السطر التالي، أنت «المشبوق»). ويمنعنا تواضع «الأخبار» من ذكر الذين كان بالودّ ذكرهم.
كان يوسف الخال يعتبر أن الصحافي فيلسوف صغير. ونستطيع أن نضيف: وأديب وروائي وعلّامة وفنّان. في أحد مقالاته الأخيرة في «الشرق الأوسط» يحكي أنيس منصور كيف يُدْهَش الشبّان لكونه عاصر عمالقة الأدب والفن وصادَقَ بعضهم، وتعشى وإيّاهم مراراً. ويبدي غصّة من إهدار الوقت عوض استغلاله في عقد صداقات أكثر وتعميقها وعدم تفويت الفرص، فكلّ شيء يمضي، وقد مضى كلّ شيء. وما لم يقله منصور هو أن الأشياء التي تمضي قد تكون أشدّ إيلاماً من الأشخاص الذين يمضون. مقال جريح رشيق، مثلاً، يُحْزن حين ينتهي.
كمقالات هؤلاء الأساتذة، وغيرهم ممّن تخونني الذاكرة في استحضارهم.
ليست الصحافة شيئاً بدون الأقلام. إنها مجرّد إحصاء، وكما يقول سمير عطا الله «الأحصاء علم غبي» فلا هو يُفرح ولا هو يُحزن. وفي الغالب يخطئ وأحياناً يُزَعْبر.
هذه الزوايا المفعمة روحاً وموهبة وذاتيّة هي أركان الجرائد، وهي شهيدة الأخبار، وتحت رايتها يُبَلَّع القارئ ما يُبَلَّع. قد تكون بهذا المعنى، لا بل هي أحصنة طرواديّة.
كان فؤاد سليمان، حامل لقب «تمّوز»، دم جريدة «النهار» قبل ستين عاماً بمقال يومي أو شبه يومي من عشرين سطراً. والذين قرأوه ولو فارقوا الحياة سيظلّ دم حروفه يتدفّق في شرايينهم إلى الأبد. كذلك فؤاد حدّاد، حامل لقب «أبو الحنّ»، في جريدة «العمل». الشهيد المُجهَّل به فؤاد حدّاد. كذلك، بالريشة المُلْهَمة، ناجي العلي في «السفير» وبيار صادق في «النهار» وحيثما كان. لا أقصد كتّاب التحليل، أمثال ميشال أبو جودة وطلال سلمان وجوزف سماحة ورفيق خوري، فهؤلاء موضوعهم آخر، بل أقصد عازفي الزوايا الخاصّة، فنّاني المزاج والنَبْرة، أدباء الأوراق اليوميّة، مُستخرِجي رحيق الزواليّة.
أحرّ التهنئة، وأحياناً نقول: ليت اليوم ينتهي بانتهاء مقالهم!



فاليري، هوغو، بودلير

يلاحظ بول فاليري، في محاضرة له عن الشعر، أن فكتور هوغو استمر طوال ستين عاماً يجلس للكتابة كلّ يوم من الخامسة صباحاً حتى الظهر: «كان يكتمل ويتقوّى في فنّه. كان يخطئ الاختيار، ويزداد خطأً يوماً بعد يوم، بقدر ما كان يضعف شعوره بالتناسب. كان يثقل أبياته بكلمات غير محدّدة، مبهمة، صارعة، ويحشوها بكلمات من مثل العدم، اللانهاية، المطلق، حتى فقدتْ هذه التعابير المخيفة ظاهر العمق الذي كان لها. ومع ذلك، فما أعجب الأشعار التي نظمها هوغو في آخر أيّامه، فهي لا تشبهها أشعار أخرى من حيث الشمول والتنظيم الداخلي والرنّة والخصب (...) لقد بلغ هذا العجوز الشهير أعلى قمم القوّة الشاعرة وفنّ النظم النبيل».
في المقابل، عاش بودلير نصف حياة هوغو. آمن مثله بالانضباط الكتابي. في شعره توقٌ إلى الترف، لكنّ حياته سلسلة متراصّة من الكدح. وما أنتجه هوغو في ثلاثة أرباع القرن وأَصعده إلى ذروة السلطان، أنتج بودلير نقاطاً قليلة في بحره خلال عشرين سنة وكانت أخطر وأروع من آيات هوغو جميعاً. بديوانه اليتيم «أزاهر الشرّ» رسم بودلير مفترق الطريق بين القديم والحديث، وبكتاباته جمعاء، نقداً وقصائد نثر ويوميّات وتجليّات بحثيّة، أوجز الجواهر التي تستحقّ النظر. عاش هوغو أشبه بزعيم وطني وبطريرك عائلي وأدبي ووجيه أمّة، وعاش بودلير تاعساً يائساً طفلاً ممزّقاً يمشي وموته يمشي فيه ومعه مشية الصحبة الذاهبة إلى مصيرها بكامل وعيها الضاري.

القوّة والعفويّة، الإيحاء والنفاذ، الإيجاز والإشباع، الغريزة الجارفة والمنطق القاطع. إن شاعريّة بودلير الوحيدة من نوعها في التاريخ، شاعريّته العلّامة النبيّة، شاعريّته الأدقّ من الجراحة، المسمّرة عينيها بل جميع ما فيه من عيون على ما لا تجرؤ عين أن تراه والمستحوذة على أكمل تعبير عنه، شاعريّته المُطْلَقة الجبّارة هذه قد أشرقت منه رغم ألدّ أعدائها: وعيه النقدي المفترس. شاعر رغم رقيبه السفّاح. شاعرٌ في مصهر عدوّه. في فم عدوّه. شاعر البقيّة الباقية منه، البقيّة التي لم تقوَ عليها شمس عقله التجفيفيّة ولا صرامته الرهيبة ـــــ البقيّة الخالدة.

ويجتهد فاليري في هذه المحاضرة لإظهار بودلير متأثّراً بإدغار بو إلى حد السرقة، ويقول إن «مجد بودلير الأعظم هو، ولا شكّ، في أنه خَلَقَ بضعة شعراء كبار. فما كان فرلين ومالارمه ورامبو ما صاروا لو لم يقرأوا «أزاهر الشرّ» في «السنّ الفاصلة».
كان فاليري عقلاً تمحيصيّاً وشموليّاً، ذا التماعات عبقريّة في بحر من الفذلكات العقيمة وتعرّجات نرجسيّة مغناج ومتذاكية. لم يفهم أو لم يشأ أن يفهم شاعريّة كشاعريّة بودلير، مثله مثل العديد من العقول الفرنسيّة «الموزونة». «يجب» أن يكون بودلير آخذاً من هنا، متأثّراً من هناك، مُركّباً في كلّ الأحوال. العقل الفرنسي النيّر ينزعج من الليل. جان بول سارتر «انتقم» من بودلير بكتاب أفرد جانباً كبيراً منه لتشخيص التصنّع والتمثيل عند أشدّ الشعراء التصاقاً بصدقه.
من الغريب أن تكون الرومنتيكيّة قد استطاعت شقّ طريقٍ لها في فرنسا. والأغرب على الإطلاق هو أن تكون السورياليّة قد فرضت نفسها في القرن العشرين، قرن إميل زولا ومارسيل بروست وأناتول فرانس وبول بورجيه وفاليري وأندريه جيد. قرن مواصلة الاستهزاء الفولتيري بدون عفويّة فولتير، قرن الأدب «الطبيعي» والسرد «التحليلي» الذي يبدأ ولا ينتهي وبدون توتّر، كجسد بلا عمود فقري، قرن التمدّد «الواقعي» و«الملتزم» في ما بعد مع الوجوديّة الغبراء، الضحلة، الواقعيّة الكاذبة. بودلير، رامبو، لوتريامون، السورياليّة، وقبلهم أجزاء من الرومنتيكيّة وأسلافها المغمورين، رفوف شاذّة في المكتبة الفرنسيّة الراسينيّة الكارتيزيّة الفولتيريّة. يحلو لنا، نحن بعض العرب «الحديثين»، أن ننتحب على أنفسنا لغربتنا بين القوم. لكنّ ألمَ الغربة لدى طوائف الأدباء في الغرب أشدّ وأدهى. هنا غربتنا بين قومٍ بسطاء ونحن الذين يتمرجلون عليهم، وهناك غربتهم بين قومٍ مُتْخَمين بثقافة تفوقيّة تتباهى بعقلانيتها، قوم يضطهدون الطارئ الحديث اضطهاد التمدُّن النابذ مخالفيه بسخرية واحتقار. كبرياء الغربة في التخلّف ووحشة الغربة بين أهل المدنيّة.



مهلاً

بين وقت وآخر أتلقّى رسائل بتواقيع مختلفة وذات مضمون متشابه، كان آخرها بالبريد المضمون وباسم «كارلا عسّاف».
تحمل هذه الرسائل عَتَباً على كاتب هذه السطور لأنه لم يعد يتغنّى بموضوع معيّن، كما تقف موقف المندّد بـ«الأيّام البشعة التي وازنت الذهب بالتنك وقلبت، بمؤامرة وتزوير، كل الحقائق». وتتحدّث عن «تخاذل الأصدقاء وتبخّرهم وتواطؤ الإعلام والوطن كلّه» ضدّ ذلك الموضوع المعيّن.
عذراً من صديقات الموضوع المعيّن وأصدقائه. كان بالود غمرُ مَن نحبّهم بأكثر ممّا يُراد، لولا خوف التكرار. وبعض الشؤون والفنون لا يحتمل أن يُكتب عنه بغير اندفاع العفويّة وحرارة الانطباع، وهذان لا يتأتّيان فرض واجب. لا بدّ لهما من ظروف، والظروف التي تشير إليها الكاتبة في رسالتها كانت ظروفاً حاكمة إيجابيّاً، وهي مثبتة لوقتها ولأيّ وقت. والكتابة تنبع من الشعور وليست ملحقة بالصناعة الإعلاميّة. لقد ظلّت مجتمعاتنا تؤلّه نجوم الفن. لا بأس. قد يكون هذا هواها في الثقافة. لكن مجتمعاتنا لا تطيق أن يتقاعس أحد عن أداء فرائض العبادة لمشاهيره من الفنّانين تحت طائلة الاتهام بالتقصير والتغييب.
في تقديرنا، نحن، أن لا أحد أكثر حظوة ودلالاً في مجتمعاتنا من نجوم الفن. لا أحد يعرف (من أبناء هذا الجيل خاصّة) المَثَّال يوسف الحويك أو الرسّام مصطفى فروخ أو القصّاص يوسف حبشي الأشقر أو الفيلسوف شارل مالك، والكلّ اختصاصيون بهيفا ونانسي والحلاّني وعلامة والكفوري وكرم وسائر «نجوم» معمل «روتانا» للنجوم. إن الكلّ يتباهى بمعرفة اسم سعيد عقل ولكنْ كم عدد الذين قرأوا شعره؟ فيروز مفخرة لبنان ومعجزته الصوتيّة ولكن لا يجوز أن نتّخذها ذريعة لجهل باقي تراثنا وسائر مقوّماته. الكلام نفسه يقال عن جبران خليل جبران: لا التلويح باسمه علامة معرفة ولا التبحّر فيه حدود للمعرفة. شتّان. يحتاج هذا الأديب المرهف المجدّد والساخر المرّ أحياناً إلى إعادة قراءة صارمة وإلى إعادة تقييم تستلهم المقاييس الأدبيّة والفكريّة والمقارنة الجديّة لا العصبية الوطنية ولا أذواق المراهقين البكّائين. ويحتاج النقد أن يسحب هذا الكاتب من التداول السياحي ويعيده إلى حجمه الحقيقي: حجم أديب لعلّ أهم منجزاته لا محتوى أدبه بل لغته الطريّة التي نقلت التعبير العربي من التحجّر إلى مناخ النفس الحميمة، وروحه التي تجرّأت على التبرّم ببعض التقاليد والمُحنّطات ولو رزحتْ أحياناً تحت تقاليد ومحنّطات أخرى أوحت، إنشائيّاً، بأنّها تخترقها.