عروض «أوبرا بكين»، التي تنطلق غداً في «مسرح مونو»، تعود بنا إلى جذور المسرح. قصص أخلاقيّة وميتافيزيقيّة مشفّرة، تتمحور حول جسد الممثل، بين شعر وإيماء ورقص وغناء وألعاب بهلوانيّة وفنون القتال
بيسان طي

الصينيون قادمون... وعشرات الفنانين سيعتلون خشبة مسرح «مونو» البيروتي ابتداءً من يوم غد. هكذا سيتمكن الجمهور اللبناني من متابعة عروض من «أوبرا بكين» الشهيرة، إضافة إلى عروض موسيقية ورقصات ضمن مهرجان مفتوح للجمهور مجاناً، يستمر أربعة أيام، ويشارك مسرح «مونو» في تنظيمه بالتعاون مع معهد «كونفوشيوس» في الجامعة اليسوعية، وجامعة «شن يونغ» الصينية.
إنه حدث استثنائي في أجندة بيروت الثقافيّة المزدحمة بمواعيد مع فنانين من مختلف الجنسيات... لكن حصة الشرق الأقصى بقيت ضعيفة جداً حتّى الآن، كما أنّ اللبنانيين اعتادوا متابعة أعمال تنتمي عموماً إلى المسرح الغربي. أما «أوبرا بكين» فتقترح لغةً فنيةً مغايرة، تستمد جذورها من النشأة الأولى للمسرح في الصين، حيث ولد في القرن الثاني كمزيج بين المسرح الغنائي وألعاب المهرّجين. كان المسرح الصيني، على أنواعه، يجمع بين فنون مختلفة: الغناء والرقص والموسيقى والألعاب الأكروباتية... وقد كان لطقوس العصور القديمة تأثيرٌ كبيرٌ على هذا المسرح، إذ كانت العروض تقدم قرب المعابد في إطار طقوس الخدمة الدينية، ووفق روزنامة دينية، وذلك للحصول على بركة الآلهة والترفيه عن أبناء القرى. وكان بعض المعابد يتّسع لمساحات مخصّصة للعروض المسرحية داخله. ويمكن القول إنّ الطقوس السحرية لا يزال لها تأثير في العروض المسرحية الصينية إلى يومنا هذا. حتّى إن بعض الممارسات الدينية ترافق مع «عروض كوريغرافية» طُوّرت خلال العصور اللاحقة.
مع الوقت، انتقلت العروض المسرحية إلى قصور الأمراء وبيوت الأثرياء. وكان هؤلاء يرفّهون عن ضيوفهم بتقديم العروض، أو الوصلات البهلوانيّة التي تقدم الآن في «أوبرا بكين» بشكل مؤسلب. على أي حال، إن «الأسلبة» من لغات هذا المسرح الذي عرف انتشاره الأول في العاصمة الصينية أواخر القرن الثامن عشر، مع وصول فرقة «هويبان» إليها من جنوب البلاد. وفي القرن التاسع عشر، تبلورت عروض «أوبرا بكين» التي عرفت رواجاً كبيراً، بعد أن مرت عملية تطوّرها بعدد من المحطات. فحين مُنعت النساء من التمثيل، أخذ الشبان الصغار يلعبون الأدوار الأنثويّة. ويقول الكاتب روجيه داروبير في كتاب «المسرح الصيني»: إنّهم كانوا يُعرفون بالممثّلين المتحوّلين جنسياً. في فترة لاحقة، صارت لأصحاب اللحى مكانة كبيرة. ومع إنشاء الجمهورية الصينية عام 1912، عادت الممثّلات النساء إلى «أوبرا بكين»، وحلّت معاهد المسرح مكان المعلّمين التقليديين الذين كانوا يدرّبون الممثّلين الصغار. وأدّت مدرسة كزيليانشغ، حتى عام 1945، دوراً رئيساً في تحديد تطوّر تلك المؤسسة الفنيّة العريقة.
وقد أسهم تردّي الأحوال الاقتصاديّة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وعجز الأثرياء عن مواصلة تمويل الفرق المسرحية، إلى انتشار مساحات للعروض العامة، ما أدّى إلى زيادة الفرق التي تقدم «أوبرا بكين»، وهي تتجاوز في يومنا الـ400 فرقة.
في «أوبرا بكين» تمتزج الحوارات والغناء والشعر والرقص والإيماء وفنون القتال، المستقاة من تقاليد صينية مختلفة، وألحان غنائيات منوعة، علماً بأن كلّ «لحن» يعكس واقعة درامية، وتكون وظيفته أن يحرّك لدى الجمهور ردود فعل عاطفية تختلف مع كل غنائية. ويمثّل هذا المسرح نمطاً فريداً من الرواية الدرامية، إذ تعكس مبادئه وقواعده الاعتبارات الكونفوشيوسية في السلوك والأخلاق. ويتألف العرض عادة من أربعة فصول، علماً بأن الريبرتوار التقليدي يضم مئات القصص، ومعظمها لا يحمل توقيعاً. لكن القصص المشهورة تربو على مئتين، وهي تقسّم إلى سبع فئات: الولاء والواجب، التعاليم الأخلاقية، الوقائع التاريخية، قصائد القصر، غراميات، قضايا قانونية، أساطير عن الخالدين. وإذ تتنوع مصادر هذه القصص، فإن بعضها مستمد من روايات صينية قديمة: ثمة قصص كثيرة مأخوذة مثلاً من رواية الممالك الثلاث.
وإذا كان من ميزة أساسيّة لهذا الفنّ، فهي التناغم بين الحركة والأداء الكلامي والغناء. ومعظم الشخصيات تؤدي مقاطع غنائية في كل قصة، ولكل حالة أو شخصيّة ما يرمز إليها، كما أن أبسط العناصر المشهديّة يحمل معناه المحدد: كل حركة وقناع ولباس وديكور ونغمة لها دلالتها الخاصة... في «أوبرا بكين» مثلاً 27 رمزاً للضحك، يعرفها الجمهور، ويعرف أي ضحكة تعني الهبل، وأي ضحكة تعني الغيرة أو الدهشة أو المرارة وغير ذلك. ويذكر داروبير أن الرغبة في إخضاع المواقف الدرامية لأشكال متعارف عليها أمر يتناسب مع القاموس الصيني الغني بالرموز.
أما الماكياج، فيعدّ رسماً على الوجوه، وله مئات الرموز المتعارف عليها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأقنعة والألوان التي تكتسب معاني خاصة. فالأبيض مثلاً هو اللون الذي يدل على أنّ صاحبه يميل إلى الخيانة. إنه لون إشكالي في الصين! فيما اللونان الذهبي والفضي يدلان على شخص يتمتّع بقدرات خارقة. يُذكر أيضاً أنّ رموزاً في اللباس والماكياج تدل على عمر الشخصية ومكانتها الاجتماعية، وإذا ما كانت شخصية حربية أو مدنية. وتحمل الشخصيات إشارات مسبقة إلى مصائرها. فمن يظهر مثلاً بخطّ أحمر على الجبين هو من دون شك هالك وسيقتل بعنف.
وأخيراً، يكاد الديكور يغيب عن «أوبرا بكين». الألوان تدل على المكان الذي تدور فيه الحوادث: على الأرض أو في السماء أو في أعماق البحار. والعناصر المستخدمة قليلة، وترتيبها يعكس دلالة مكانية معينة. فحين يوضع كرسي على طاولة، يدل ذلك على قمة الجبل. وفي ظل غياب شبه تام للديكور، سيحتلّ الممثل مكانه من خلال أدائه المشفّر، ما يتطلب تدريبات طويلة ومكثّفة. والمعروف أن معظم الممثّلين يبدأ الدراسة في عمر مبكّر. وكما هو معروف، فإن الموسيقى هي من المكوّنات الرئيسيّة لعروض «أوبرا بكين». إذ تُخصّص دائماً الجهة اليمنى من الخشبة للأوركسترا، وتكتسي الآلات الوترية أهمية كبيرة، إضافة إلى آلات النفخ والإيقاع المختلفة.

«أوبرا بكين»: السابعة من مساء الغد، ثم 8:30 من مساء كلّ يوم حتى 10 أيار (مايو) الحالي ــــ مسرح «مونو»: 01،202422



اطلبوا البرنامج

تقدم فرقة معهد الفنون الدرامية في جامعة جنيانغ أربعة عروض، تُفتتح بمقطوعة موسيقية تقليدية بعنوان «افتتاح احتفال الربيع». ومن المقطوعات الموسيقية والغنائية التي ستقدم Solo de Pipa، و«الليل»، و«الكمين» وغيرها... بعضها يعكس أجواءً حربية والبعض الآخر عن السعادة.
وتتضمن العروض مشاهد من مسرحيتي «توزيع الزهور» و«عند مفترق الطرق». في المشاهد الأولى تقوم إلهة بتوزيع الزهور في الغيوم حول الكرة الأرضية، ولأكمام ثوبها امتدادات تمثّل الزهور التي تجلب الحظ والسعادة. أما المسرحية الثانية فهي قصة الجنرال جياو زان الذي نُفي خارج بلاده، وفي الطريق إلى منفاه، يقيم فترة عند صديقه ليو هوالي، ولكن الجندي المخلص رين تانغوي يتبعه ليحميه من أعدائه. وللرقص حصة كبيرة في برنامج العروض، ففي كل ليلة ستقدّم أربع رقصات: رقصة المغول، حيث ترمز الطاسة التي يحملها الراقص على رأسه إلى رغبته في الترحيب بضيوفه، ورقصة «سحر البمبو»، أي سحر الخيزران الذي يعدّ رمزاً لتفتّح الحياة وللحب ولضرورة حماية الطبيعة. وفي البرنامج رقصة من التيبت بعنوان «الحب»، وهي تعبّر عن شابات يبحثن عن الحب، كما ستقدّم رقصة من فنون منطقة واي الواقعة في شمال غرب الصين، وتعدّ أنشودة من أجل سعادة شابات هذه المنطقة.
البرنامج غني، وفق ما أراده منظّمو هذه التظاهرة، الذين يذكرون أنّ الاحتفالات الصينية نادراً ما تحلّ في بلادنا، وأن «أوبرا بكين» لم تزر الدول العربية إلاّ في مناسبات نادرة.