إذا كانت ترجمة الشعر أصعب من كتابته، فإن خالد النجّار شاعر مرتين! هذا ما يؤكد عليه مجدداً في ترجمته لإتيل عدنان («هذه السماء الغائبة» ــــ «دار التوباد»). لكن معرّب جورج شحادة اختار أن يكون وفياً للمضمون على حساب القصيدة... أحياناً

نوال العلي

يأخذ الشاعر التونسي خالد النجار على عاتقه تقديم عدد من الشعراء الفرنكوفونيين إلى العربية، إمّا بترجمات جديدة لنصوص عُرِّبت قبلاً، أو تلك التي تُقدَّم إلى العربية للمرة الأولى. مجموعة «هذه السماء الغائبة» للشاعرة إتيل عدنان أحدث إصدارات دار التوباد، جاءت بترجمة النجار نفسه. وقد حرص فيها هذا الأخير على أن يكون الكتاب ثنائي اللغة، مُمكّناً القارئ بلغتين من الاطّلاع على الأصل والترجمة... فمن قال إنّ الترجمة مجرد نقل نصٍ لقارئ يجهل اللغة الأصل؟ وإن كانت كذلك، فإنها لا تنطبق على الشعر الذي يتميّز ــــ حسب الفيلسوف والناقد فالتر بنيامين ــــ «بما لا يسبر غوره ولا يستطيع المترجم أن يعيد إنتاجه إلا إذا كان شاعراً».
ربما لذلك حرص النجار على إيراد القصائد بلغتها الأصل، كأنه يقترح على القارئ المقارنة والاتفاق معه أو والاختلاف بل ربما اقتراح صيغة أخرى للقصائد المنقولة. لا يمكن إغفال دقّة النجار في نقل معاني المفردات كما هي بالضبط مع بعض الهنّات هنا وهناك. لكنّ اللغتين ــــ العربية والفرنسية ــــ لا تتجاوبان بالطبع لا في الصوتيات، ولا في التركيب أو قيمة الكلمات. إذن، فالمسألة ليست تكافؤاً في التفسير؛ فقد يكون المعنى صحيحاً لكن الدقة في الترجمة ـــــ كما قال نيرودا مرة لدى قراءته ترجمة شعره إلى الفرنسية ــــــــ يمكن أن يكون فيها تخريبٌ للقصيدة. وقد لا يستطيع القارئ أن يفنّد أسباب احتجاجه لأنّ الترجمة تقول الشيء نفسه الذي كتب باللغة الأصل.
من يقرأ ترجمة النجار للمجموعة يقف عند مقاطع احتفظت بذهب الشعر مثل «هذا الصباح، قتلت ذبابة/ لو كنت دولة / لهدمت مدينة بأسرها» أو كما في مقطع آخر «إنني لا أقل علواً/ عن شجرة الخوخ المزهرة/ بيد أني متخلّفة بربيع واحد/ عن ثمارها». لكنه يعود ليسقط أحياناً في حفر صغيرة يبدو فيها الشعر معفّراً ومغبرّاً، كأنّه استعجل فتعثر في غفلة منه. يرد في إحدى القصائد «المسافة التي تفصلنا أنا وأنت هي عبارة عن صحن بيننا» فماذا لو كانت العبارة «المسافة التي بيننا صحن». أو كما في هذا المقطع «في أي اتجاه ترسل النظر؟/ في داخلك،/ تجد نفس الأشياء، والعوائق/ ذاتها التي تلقاها/ أمامك»
والمقطع في الأصل:
Regarder vers où?/A l'intérieur,les/mêmes objets,/les mêmes obstacles que là, devant /soi
لا شك في أنّ الترجمة دقيقة والمضمون أيضاً، لكن المقطع لم يعد على الشعر الذي كانه. في مقاطع أخرى، نجد شيئاً من الركاكة: «لا تألفوا / المرارة المريرة/ إذا لم يكن لكم وطن، سيبقى لكم/ الكون/ صديقاً» وربما لم يكن النجار موفّقاً في ترجمة L'amère infortune إلى «المرارة المريرة»، كما أن بناء المقطع برمّته كان ضعيفاً.
وفي مكان آخر، ترد عبارة بالعربية غير موجودة في النص الأصلي مثل «يتحدثون عن الحرية/ يربّون قططاً لتغذية الكلاب/ ويقتلون الحوت لتوفير طعام القطط». وفي النص الفرنسي
Ils parlent de liberté/ tuent les baleines/ pour la nourriture à chats
وكذلك الحال في استخدام الكثير من ضمائر الإشارة والوصل وأدوات العطف التي تثقل رشاقة شعرية المقطع، كأن يتكرر استخدام الأدوات هو أو هي كتعريف لما بعدها، حتى وإن لم ترد هكذا في النص الأصل، مثل «الحقائق هي متاجر كبيرة» أو «باريس هي الصحاري المسكونة» أو «الذات هي صورة تؤخذ عن صورة...هي بطاقة بريد».
ليس الأمر كأنه بحث عن هفوات، وخاصة أنّ أي ملاحظات عميقة عن الترجمة لا بد من أن تصدر عن مترجم أيضاً. لكنّ هذا النوع من الملاحظات هو ما يلتقطه القارئ العادي خلال المطالعة، ولا سيما وقد فتح النجار له المجال عبر تقديم النص بلغتيه. لكن هذا النوع من الهنّات أيضاً تجري عادةً إزالته لدى خضوع الترجمات للتحرير لا المراجعة فحسب. وهنا، قامت آسية السخيري بعملية المراجعة، رغم ما ذكر على الغلاف الأنيق والبسيط بأنها الطبعة الجديدة والمنقّحة.
وإذا استعدنا قول المترجمة ماري كارولين بأنّ «الترجمة أشبه ما تكون بإنجاب الطفل الثاني، لا بد من التصرف بشيء من الفظاظة مع من نحب، ونستقبل الصغير الجديد». فيمكن وصف ترجمة النجار بالدماثة المرهفة. فهو لا ينقل جملاً شعرية تُحدث الأثر والتأثير، بل يعرّب الكلمات، حرصاً منه على الاحتفاظ بحرفية النص. ما يخلق تساؤلاً لدى القارئ: ترى لو كتبت إتيل هذه القصائد بالعربية، هل كانت ستكتبها على هذا النحو؟
لكن هل يحق لمترجم الشعر ما لا يحقّ لغيره؟ إذا كانت الترجمة لأثر الشعر وعينه، فالأمر كذلك ولا شك. أمّا إذا أريد للقصيدة أن تطابق الصورة فيها الأصل، فليس أكثر من هذا عيباً في ترجمتها.
لقد تفاوت أداء النجار هذه المرة، وهو الشاعر الذي أصدر مجموعة وحيدةً عن «دار الريس» بعنوان «نوافذ الرمل» (1990)، وقدّم ترجمةً فريدةً إلى «الأشعار» لجورج شحادة (2007)، وقد كانت المجموعة أكثر تعقيداً في بنائها من مجموعة إتيل عدنان. كما أنّها ليست التجربة الأولى للنجار مع شعرها. إذ ترجم لها قبلاً «يوم27 تشرين الأول 2003» و «يوم في نيويورك» و«الجمعة 25 آذار في الرابعة بعد الظهر».
كما أعاد النجار ترجمة عمل جورج شحادة «السابح بحب وحيد» التي ترجمها أدونيس أيضاً، وهنا نفكر في دعوى المترجم إيفان نابوكوف إلى إعادة ترجمة كل النصوص التي ترجمت قبل عشرين عاماً، ذلك أنّ اللغة تتغير أيضاً، وكل ترجمة هي ذاتية، فلو أخضع النص نفسه إلى عشرة مترجمين محترفين، لكانت هناك عشر نسخ مختلفة. وكلّما ظهرت ترجمة جديدة، أثارت الجدل حول رداءة وجودة الأخرى، بحيث يصبح اختيار النص الأقرب إلى جمالية الأصل صعباً.
تضمنت سلسلة «القصيدة» الصادرة عن «التوباد» حتى الآن 13 كتاباً، أهمها «البيت قرب البحر» للوران غسبار و«قصائد مختارة» لهنري ميشو و«قصيدة انتظار» لبرنار نويل. أما بخصوص سان جون بيرس، فقد أعاد النجار والمترجم رضا الكافي تقديم «نشيد الاعتدال» التي كان أدونيس قدّمها في الستينيات.
إضافةً إلى «القصيدة»، تصدر التوباد أيضاً «سلسلة المتون» التي وضعت بين يدي القارئ العربي ترجمات لأعمال عدّة مثل «ثلاث مدن مقدسة» لجون ماري لوكليزو، و«الخطاط» لآلان نادو، و«ذهب الثور» لإيف مزيار و«اعترافات في الثمانين» لهنري ميلر.