علاء اليوسفي
كان على المشاهدين أن ينتظروا هجوماً على مركز تيار «المستقبل» حتى يتيقنوا بأم العين أن هناك ثقافتين في البلد، وأن جماعة «المستقبل» ذوّاقة نبيذ، ربما تعبيراً منهم عن «حب الحياة». الزجاجات المرصوفة برفق في مركز تيار المستقبل في النويري الذي تم الاستيلاء عليه رصدتها كاميرات المعارضة، لكنها بقيت على سطح منخل مونتاج المستقبل. منخل الشاشات لم يتوقف منذ أول من أمس عن غربلة المواد. تعرف كل محطة ما يجب أن يبقى، وما يجب أن يُهمل. هكذا أهملت شاشة «المستقبل» النبيذ ربما منعاً للإحراج مع مفتي الجمهورية، فلم نرَ سوى أثاث مخرب وتكسير للمحتويات.
النبيذ خرج سليماً. لا نعرف من صادره في النهاية، الجيش اللبناني أم مناصرو حركة «أمل». الكاميرا لم تقل لنا، وفاتت الصحافيين مادة كان يمكن أن تتحوّل تحقيقاً صحافياً... ما مصدر نبيذ «المستقبل» وما مدى جودته؟ هل هو صناعة وطنية أم مستورد؟ وبالتالي هل يؤمن ذواقة «المستقبل» بشعار «إذا بتحب لبنان حب صناعتو» ويطبقونه؟ ولماذا هذه الكميات المخزنة من النبيذ؟ هل رُكنت للمناسبات الوطنية؟
مهما يكن فإن كاميرا «المنار»، «انتشت بالنبيذ» الذي تحوّل في نشرتها إلى صيد ثمين يرقى إلى مصاف الصور التي أظهرت أكرم شهيب داخل الثكنة الإسرائيلية في الجبل إبان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. لكن للتذكير، فإن هذا الشريط موجود على موقع «يوتيوب» ومتداول منذ فترة، فهل كانت «المنار» تعتّقه لمناسبة «حرزانة»؟
مديرو تحرير النشرات الإخبارية يختارون لنا ما يجب أن نشاهد وأن نسمع ونقرأ. هل يذكر واحدنا أي خبر عرضته أي من وسائل الإعلام عن الأزمة الاقتصادية؟ هل انتبه المشاهدون إلى ارتفاع سعر البنزين والديزل والمازوت؟ وهو خبر انفرد به شريط أخبار LBC دون سائر المحطات؟
في الحروب لا متسع للاقتصاد وللحالة المعيشية، كما لا أهمية لآراء الناس الحياديين أو المستقلّين عن حال التعبئة الطائفية والسياسية. هذه الآراء يهملها منخل «المنار» كما يهملها منخل «المستقبل» اللذين يوليان أهمية لتسقط هنات وسقطات الطرف الآخر. مع إدراك كل منهما أن المعركة الإعلامية لا تقل أهمية عن المعركة السياسية، وأن ما يبقى في ذهن المواطن هو ما يشاهده نهاية النهار على نشرة الأخبار أكثر من المكتسبات التي تتحقق على الأرض، لكن هل يدركان أن كليهما وقع في فخ المنخل؟
هي معركة إعلامية بالأساس تدرك فيها المعارضة أن هدف السلطة تجريد حزب الله من وقاره المقاوم ونزع هذه الصفة عنه وإلصاق صفة الميليشيا عليه. ميليشيا تحتل شوارع العاصمة وتعتدي على كرامتها وأمنها. البيانات الصحافية والمواقف السياسية هي مجرد عدة في هذه المعركة، وبيان المفتي ليس إلا سلاحاً يقع في هذا الإطار. ويراد من خلاله التأثير بالرأي العام العربي والإسلامي انطلاقاً من هيبة العمامة السنية. في المقابل، فإن تلفزيون «المنار» معني بالرد من خلال إظهار جماعة «المستقبل» على أنها ميليشيا هي الأخرى وأنها هي التي ابتدأت بالاعتداء حتى كرّت سبحة الأحداث. هكذا استهلت نشرة «المنار» بعنوان «ميليشيا المستقبل تحول ساحات بيروت إلى حرب»، وافتقرت صياغتها الخبرية إلى الدقة (وربما إلى النباهة) من خلال تصويرها المعارك على أنها مواجهات بين المواطنين وميليشيا «المستقبل» الذين بحسب القناة «أتوا بمسلحيهم إلى الشوارع وأخرجوا من جحورهم الأسلحة والذخائر». لكننا لا نحتاج إلى معدل عال من الذكاء لكي نعرف أن المعركة جرت في الواقع بين مناصري كلا الطرفين وأن «المواطنين» هم في الحقيقة غير محايدين.
في المقابل، رفعت «المستقبل» شعار «بيروت تحت الحصار» في تغطيتها المتواصلة، مستغلة الكاميرا لإظهار «التهجم على الممتلكات العامة والخاصة التي لم يسلم منها الجيش». لكن منخل «المستقبل» روى أعاجيب لم يضاهه فيها ما أظهره «المنار». إذ كيف يمكن لنا أن نصدق رواية «أخبار المستقبل» عن «أن المسافرين اضطروا إلى دفع أموال لعناصر حزب الله لكي يمروا عبر المطار»! وهو لم يجر مقابلة واحدة مع أي من هؤلاء؟ كما كيف لنا التأكد من أن من قام بالمظاهر المسلحة هم عناصر من حزب الله وليسوا من أي حركات أو تيارات أخرى؟ وكيف لنا أن نصدق أن حافلات نقلت عشرات مقاتلين من حزب الله إلى وسط بيروت؟ (لماذا حافلات لا سيارات مثلاً).
وحدها «الجديد» تميزت بتغطية متوازنة بين سائر المحطات اللبنانية، وللتذكير فإنها استضافت في اليوم الأول من الأحداث الصحافي عقاب صقر خلال الفترة الصباحية، وخلال المساء استضاف جورج صليبي في حلقة استثنائية الصحافي الموالي للسلطة أسعد بشارة. كما جاءت نشرتها الإخبارية غير منحازة، فبدأت نشرتها بعنوان «بروفة الحرب وقعت»، مقرة خلافاً للمنار بأن «المعارضة بفرعها المسلح قررت قطع اليد التي امتدت لسلاح المقاومة».
ليس غريباً إذاً أن يتحوّل كورنيش المزرعة إلى خط تماس إعلامي لا فقط أهلي بين طرفي النزاع، فمن جهة طريق الجديدة رُكنت كاميرات «المستقبل» و«المؤسسة اللبنانية للإرسال». ومن ناحية بربور كاميرات ومراسلو «الجديد» (تجنباً للمخاطرة في الطرف الآخر) و«المنار» وnbn من دون أن يكون للمواطن اللبناني الذي تعب لوك الكلام أي رأي في ما يحدث على نشرات الأخبار.