strong>«حق العودة» بين مخيّم الأمعري و«مهرجان كان»
منعها جيش الاحتلال أخيراً من عبور جسر اللنبي إلى رام الله، حيث كانت تعتزم الاحتفال بإنجاز فيلمها مع أبناء المخيّم الذين احتضنوا تصويره. وبعد أيّام في كان، سيلفت الشريط الأنظار إلى هذه الفنّانة الفلسطينيّة الشابة، ومن المتوقّع أن يثير السجال في الذكرى الستين لنكبة فلسطين

نجوان درويش
آن ـــــ ماري جاسر ستكون في «مهرجان كان السينمائي» هذا العام (14 ـــــ 25 الجاري). ومشاركة «ملح هذا البحر» باكورتها الروائيّة الطويلة، ضمن تظاهرة «نظرة ما»، في الدورة الـ61 من أشهر مواعيد الفنّ السابع، تستحق التفاتة خاصة، لأسباب عدّة أهمها الدلالات السياسية التي لا مفرّ من أن ترافق مشاركة فيلم فلسطيني في هذا المهرجان العالمي.
أما العرض الأول للشريط (إنتاج فلسطيني ـــــ فرنسي)، فكان سيجري في مكان آخر، بعيداً عن الأضواء: في مخيم الأمعري للاجئين في رام الله، حيث قررت آن ــــــ ماري أن تحتفل بانتهاء العمل مع طاقم الفيلم والأصدقاء الذين شهدوا تصويره من سكّان المخيم. إلا أنّ المخرجة مُنعت من الوصول، وهي تحاول عبور الحدود البرية مع الأردن. فمنذ سنوات، وهي مثل فلسطينيين كثيرين يدخلون بلادهم بجواز سفر أميركي أو أجنبي آخر. لكنّ الاحتلال «تنبّه» في الفترة الماضية إلى الأمر، وأخذ يمنع حملة الجوازات الغربية، وخصوصاً الأميركية، من الدخول لدى اكتشاف أصولهم الفلسطينية أو العربية. بعد ست ساعات من الانتظار والتحقيقات على «جسر اللنبي» الذي يحمل اسم جنرال إنكليزي احتل القدس عام 1917، أخبروها أنّها ممنوعة من الدخول. وحين سألتهم عن السبب أخبروها: «لقد جئت إلى هنا أكثر من اللازم»! ورافقها عناصر من الأمن الإسرائيلي إلى باص أعادها إلى الجهة الأردنية من الجسر. في الباص، بالكاد استطاعت الفنانة الشابة الوقوف على قدميها. كانت تلك لحظة حاسمة في مواجهة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، مع «حواجز» الاحتلال. أصوات رطانة بلغات مختلفة حول «حقوق الإنسان» والدعايات التلفزيونية لكرامة البشر؛ كانت تتداخل مع مشاهد من دراما رحبانية فيها قطّاع طرق يحاولون منع «فيروز» من الوصول للغناء في ضيعتها؛ تتداخل مع مشاهد من فيلم عن الرايخ الثالث: الباص يتحول إلى قطار وآن ـــــ ماري مبعدة إلى معسكرات اعتقال خفية... بعيداً عن «ملح هذا البحر».
سيناريو «ملح هذا البحر» الذي يحمل أيضاً توقيع آن ـــــ ماري جاسر أيضاً، تتقاطع قصته مع جوانب من حياة مخرجته الشخصية. إذ إنّ القصة تدور، باختصار، حول فتاة فلسطينية اسمها ثريا (تمثّل دورها شاعرة أدائية فلسطينية/ أميركية هي سهير حمّاد)، عاشت في أميركا لأبوين لاجئين من حيفا، تعود إلى فلسطين بعد اكتشافها أن مدّخرات جدها المصرفية منذ عام 1948، ما زالت موجودة في مصرف في يافا.
حين تعود إلى فلسطين تنشأ علاقة حب بينها وبين شاب من مخيم الأمعري (الممثل صالح بكري). من خلال هذه القصة، تقدّم جاسر دراما اللجوء الفلسطيني بين الداخل والخارج. بما يصبّ في فكرة سياسية واضحة، هي حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم المحتل الذي اقتلعوا منه. وتتضاعف هذه الدلالة حين تتزامن سنة إنتاج الفيلم (ومشاركته في مهرجان «كان» السينمائي) مع الذكرى الستين لاحتلال فلسطين ونكبة اللجوء (14 أيار/م ايو 1948).
ولعل أهم ما يسجّل لـ«ملح هذا البحر»، أنّ وصوله إلى «كان»، لم يكن على حساب تنازلات في تقديم الرواية الفلسطينية. وهذا الكلام ينطبق على تجربة آن ــــ ماري جاسر ونجاحاتها بشكل عام، فمَن يعرف أعمالها لا يمكنه إلّا أن يعجب بمواقفها السياسية التي لا تقلّ جرأة عن صنيعها الفنّي. وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على شقيقتها الفنانة إميلي جاسر التي انتزعت أخيراً «الأسد الذهبي» من بينالي البندقية عن عملها التركيبي «مادة من أجل فيلم»، عن حياة المناضل والأديب وائل زعيتر الذي قتله الموساد الإسرائيلي أمام شقته في روما قبل 35 سنة.
تقف آن ـــــ ماري جاسر في أعمالها موقفاً سياسياً واضحاً. مثلاً، في شريط تجريبي قصير (3 دقائق) بعنوان «أصوات الشارع» (2006 )، أخذت أصواتاً مسجلّة في الشارع من الأحاديث اليومية للناس. وركبت هذه الأصوات على مشهد ثابت لنمل يروح ويجيء. تبدو أجواء عدوان تموز 2006 مهيمنة على الشريط. ففي نهايته، نسمع ما تقوله أصوات الشارع عن المقاومة اللبنانية؛ في تحيّة خافتة للمقاومة بالمقدار الذي تسمح به لغة الفن.
في أعمال «الأختين جاسر»، نرى صورتنا ونسمع أصواتنا نحن. لا ذلك «الصوت» وتلك «الصورة» التي تحاول القوى المهيمنة إملاءها على الفنانين الفلسطينيين، وفناني المنطقة العربية عموماً. ولعل في نجاح «الأختين جاسر»، ما يبطل تلك الفكرة الرائجة والخاطئة: أن شرط النجاح في المشهد الفني العالمي، يستلزم التخلي أو «التخفيف» من الالتزام بقضايا المجتمعات العربية وأولها قضية فلسطين. وأن «الحداثة وما بعدها» مرتبطتان بإبداء «موقف ايجابي» من دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبالتحلّي بـ «بُعد نظر» يتخطى «الأفكار البالية» عن التحرر أو القومية أو الهوية الوطنية.


جيل جديد في الفن الفلسطينيفي عام 1996، قدمت آن ــــــ ماري وثائقياً بعنوان «تاريخ ما بعد أوسلو»، وأخذت تعمل داخل فلسطين، حيث قدّمت مجموعة من الأفلام القصيرة، بعضها أثار اهتماماً وحصد جوائز من مهرجانات سينمائية عالمية، مثل «كأننا عشرون مستحيلاً» (17 دقيقة ــــــ 2003) الذي يقدّم أيضاً لزمن الاحتلال بعد «اتفاق السلام».
إضافة إلى عملها صانعة أفلام وكاتبة سيناريو، شاركت آن ـــــ ماري في مبادرات خاصة بتطوير صناعة الأفلام في فلسطين، مثل مشروع «أحلام أمة». كما يمكنك أن تقع على اسم هذه الفنانة الناشطة في أسفل بيان أو تحت مقال أو قصة قصيرة تلتقط طرفاً من الدراما الفلسطينية في زمن الاحتلال. وقد تلتقيها أيضاً في تظاهرة تندّد بزيارة كوندليزا رايس إلى رام الله... أو في سيارة محطّمة الزجاج بعد انتهاء إحدى وحدات الاغتيال الإسرائيلية من تنفيذ جريمتها في وسط رام الله... كما حدث قبل عامين حين كانت وشقيقتها إميلي شاهدتين على جريمة اغتيال عادية لأحد المقاومين في وضح النهار... في يوم فلسطيني عادي!