خالد صاغيّةلنضع سوء النيّات جانباً. برّرت الحكومة إصدارها القرارين اللذين رأى حزب اللّه أنّهما تهديد لسلاحه، بأنّها كانت تبغي من خلالهما «بناء الدولة». وبعد ردّ الفعل المسلّح الذي قام به حزب اللّه وحلفاؤه، رأى أحد أركان السلطة أنّه ربّما جرى بعض التسرّع في إصدار القرارين، وأنّ عمليّة بناء الدولة تدريجيّة، ولم يحن الأوان بعد لخطوات من النوع الذي اتّخذته الحكومة. أمّا رئيس الحكومة، فلم يجد غير شعار «لا تراجع عن بناء الدولة»، للدفاع عن موقفه.
ليس الأمر متعلّقاً بالتوقيت وحسب. لقد دأبت السلطة في لبنان على تصوير الصراع الجاري منذ ثلاث سنوات على أنّه صراع بين «الدولة» و«دويلة حزب الله داخل الدولة»، وأنّ تحالف فريق 14 آذار يخوض معركة بناء الدولة على حساب الدويلة، فيما تقوم المعارضة بالمشروع المعاكس. وراحت السلطة تردّد عبارات من نوع احتكار العنف، والدولة المدنيّة، والقوانين والمؤسّسات... وهي تظنّ أنّ استخدامها لهذه المصطلحات يحسم المعركة «الأخلاقيّة» سلفاً لمصلحتها. فمن تراه ذاك الذي يدعم دويلة في وجه الدولة الحامية والحاضنة للجميع؟
غالباً ما كانت المعارضة تردّ على هذا الادّعاء بالتشكيك في نيّات الفريق الحاكم، وبنبش تاريخ قياداته للتدليل على أنّ هذا الطاقم المكوّن من مجموعة من أمراء الحرب السابقين والمضاربين العقاريّين (قتلة ولصوص وفق تعبير للسيّد حسن نصر اللّه) ليس من النوع الذي يمكنه حمل مشروع بناء دولة. ويحمل مطلب المشاركة في طيّاته ادّعاء أنّ أسس دولة قادرة وعادلة (ومقاوِمة) يضعها شخص كميشال عون، لا كفؤاد السنيورة مثلاً.
قد تكون ممارسة الحكم مختلفة بين من هم في الموالاة ومن هم في المعارضة. لكنّ الدولة التي يطرحها السنيورة لا تختلف في الجوهر عن دولة ميشال عون. كلاهما يتحدّث عن بناء الدولة كما لو أنّ ثمةّ نموذجاً جاهزاً لهذا البنيان، وكلاهما يتخيّل أمراً شبيهاً بما عرفته الدول الأوروبية الحديثة. لكنّ الواقع يدحض إمكان هذا النوع من «الدولة» في لبنان، لا بل إنّ هذا النموذج المستخدم في السجال السياسي ليس الأكثر انتشاراً في العالم أصلاً.
لا يمكن الخروج من المأزق الحالي إلا عبر التخلّي عن تخيّل هذا النموذج الجاهز، والانطلاق من خصوصيّات الوضع اللبناني لدى الحديث عن أيّ دولة نريد، وإلا فسيتحوّل مشروع «بناء الدولة»، سواء أكان رافعو رايته صادقين أو لا، إلى مشروع تدمير المجتمع والسلم الأهلي. ونجد في الحماسة البالغة لدى رئيس الحكومة في أداء الجيش دوراً مختلفاً في المعارك الدائرة، مثالاً على ذلك.
ليس هذا الواقع فريداً. فعلى عكس ما قد يتصوّره البعض، كثيراً ما انطلقت دورات العنف في العالم من خطاب «تحديثي» تبسيطي يحاول فرض نماذج متخيّلة على واقع شديد التعقيد، أو تفكيك بنى اجتماعيّة راسخة بمرسوم وزاري تنفّذه حملة عسكريّة رسميّة. فكيف إذا تعلّق الأمر ببلد كلبنان كاد مطلب الزواج المدني الاختياري يشعل فيه حرباً أهليّة؟