حسين حمزةفي كتابها الشعري الرابع «أسئلة معلّقة كالذبائح» (دار النهضة) تكتب الشاعرة المصرية فاطمة قنديل نصاً غير منضبط الهوية. إنه يتحرك بين أقصى حدود النثر، فيقترب من تقنيات الرواية العادية، لكنه، في الوقت نفسه، يصغي إلى مصادر شعرية ويحتمي بحساسياتها. تسمية «النص المفتوح» هو أول ما يخطر في بال القارئ، لكن التقدم في طيات هذا الكتاب سرعان ما يجعله يستبعد تلك التسمية. على أي حال، لا تبدو تسمية النص الإشكالية الوحيدة هنا. الواضحة والمعطاة سلفاً سيظل يرافق القارئ في رحلته داخل الكتاب. فاطمة قنديل لا تكترث بالنتوءات غير المنضبطة التي يصنعها النص. إنه نص غير منضبط. هذا صحيح، ولكنه يقترح ضوابط أخرى يمكنها الالتزام بها لحظة ارتجالها. الكتابة هنا أشبه بـ«تقاسيم» على الشعر. وهذا ما يسمح لنثريات وشعريات متنوعة بأن تتسرب إلى بنية النص.
تشبِّه فاطمة قنديل الكتابة بالصيد. هذا ليس اقتراحاً مخفياً داخل نبرة الكتابة. إنها تقوم بالفعل بتقسيم كتابها إلى فصول قصيرة يحمل كل واحد منها عنواناً يشير إلى أن عملية الصيد مستمرة. هذا التشبيه الذي يوحي بصيد الصور والاستعارات الشعرية يتداخل مع هذا التقسيم «المنضبط» هذه المرة، والذي يبدأ بفصل «إلقاء الشباك» وينتهي بفصل «قنينة خمر وصياد ليس مضطراً أن يبكر للصيد غداً». أما أطرف ما في هذا التقسيم فهو أن الكتاب ينتهي بجملة «توته توته... خلصت الحدوته».
إذا كانت هذه الخاتمة تظهر نوعاً من الخفة، فإن النصوص نفسها تعيش في ضفة معاكسة تماماً. الخفة موجودة، لكنها محمَّلة بنتف من سيرة ذاتية تحلق بجناحي العذوبة والألم معاً. ثمة أخبار عن طفولة مكتظة بالحكايات. أم مفقودة تُستعاد في أكثر من موضع. هواجس كتابة وارتجالات أسلوبية متنوعة.
بقوة السرد وحكاياته، تنجز فاطمة قنديل معظم ممارسات نبرتها. لهذا يبدو كتابها أشبه برواية مكتوبة من دون خطة صارمة. هناك صفحات كثيرة تخلو تماماً من أي ملمح شعري من النوع الذي اعتاده القارئ. لنقرأ: «كانت أمي قصيرة وممتلئة، وكنت أعتقد ــــ وربما لا أزال ــــ أن قصار القامة أقل قدرة على الحلم. في طفولتي حين كانت تضبطني في حالة تلبّس ــــ قبل أن أتعلم سحب يدي بسرعة والاكتفاء الضروري بنصف المتعة ــــ كانت لا تضربني كباقي الأمهات، بل تأخذني من يدي وتهمس لي: ستفسدين رائحة أصابعك». إلى جوار سرد مفرط كهذا، نجد قصائد موزعة على أسطر. في قصيدة بعنوان «اثنان» تكتب قنديل: «شخص ما/ في مكان ما/ يشرب زجاجات البيرة المثلجة/ التي لم أشترها الليلة ضغطاً للمصروف/ شخص فرح/ أو شخص وحيد/ أنّى له أن يعرف/ إذ يتحسس زجاجها/ أنها ترشح كل هذا الضباب/ لكي تراني».