محمد خيربعد ست سنوات من روايته الأولى «لصوص متقاعدون»، يعود حمدي أبو جليل بتجربة تعيد إنتاج عالم ينتمي اجتماعياً إلى الهامش، وعرقياً إلى البدو المصريين. في روايته «الفاعل» (دار ميريت ــــ القاهرة)، يسلك المؤلف درباً لغوياً ساخراً، متجولاً بين الفصحى والعاميتين القاهرية والبدوية، لكنه أيضاً يدخل بقرّائه عالماً يعرفه معظمهم من الخارج فقط. إنّها مهنة «الفاعل» التي هي الدرجة الأدنى في شغل عمال البناء، رفع الأتربة والرمال من الأرض إلى أعلى المنشأة مقابل جنيهات قليلة. ووراء فعل «الرفع» البسيط، يختبئ عالم كامل من شروط المهنة، ينقّب عنه أبو جليل عن دراية وتجربة ذاتية. الشاب ذو الأصول البدوية الذي جاء القاهرة مثل أقربائه للعمل في الفاعل، لكنه أيضاً يكتب القصص وينشرها في الصحف، ما يجعله كائناً فريداً، غريباً وسط رفاق الأدب و«زملاء المهنة» أيضاً.
لم ينتم «الفاعل» إلى السياسة، لكنه جرب الاعتقال بالتوريط، عندما وجد نفسه وسط تظاهرة ينظمها «الإخوة»، تحولت إلى مواجهات لم يكن ليهتم لها كثيراً. «ولكن كم شعرت بكبرياء وفخر حقيقي وهم يقصفون الشرطة بقوالب الطوب، كانت هناك رصة طوب أحمر في الحوش حولوها على الشرطة، والشرطة انهالت بالقنابل».
«الرصة» مصطلح يستخدمه عمال البناء للإشارة إلى كمية محددة من الطوب، شخصيته المزيج جعلت عينه ترى الأشياء بمنظور الفاعل اللامنتمي واللامبالي أيضاً. إذ «يبدو أن الواحد يكون مقنعاً أكثر حينما يتخلص من أعباء المشاعر». يتحدث هنا عن الحب، بعد أن يعترف «يبدو أنني، لنزق بدائي متوارث، سأنجرف، سأستبدل ما هو أدنى بما هو خير، سأستخف بالروح وأخوض في الجسد». هو يجد المسألة لافتة، لا يفهم «حقيقة اضطهاد البشرية لأجسادها» وخاصة أنه يكتشف أن روحه كانت تكذب عليه «تمدّني بأخبار مضروبة»!
فصول منفصلة ومتصلة، يمكن إعادة ترتيبها كما يناسب القارئ. يتخذ فيها المؤلف كالبطل موقفاً محايداً من آلامه وأفراحه: فالأمر سيّان، أو كما يقول الناقد الراحل إبراهيم منصور في عبارته التي يستعيرها أبو جليل على الغلاف الخلفي للرواية: «البعض معه فكة، والبعض ليس معه فكة... وهكذا الحياة».