لبانة قنطار من سوريا، كريمة الصقلي من المغرب، فريدة العلي من العراق، جاهدة وهبي من لبنان، ومجموعة رتيبة الحفني من مصر... أصوات نسائية احتضنتها باحة قصر العظم في دمشق لاستعادة الأغنية الطربية والزمن الجميل
منار ديب

«النساء تغنّي». هذه العبارة احتلّت اللوحات الإعلانيّة على الطرقات في دمشق لأيام، مترافقةً مع صورة بالأبيض والأسود لعازفة على العود. الصورة التي التقطها الفرنسي فيليكس بونفيلس عام 1880 في دمشق، تحاول في هذا السياق التأكيد على العراقة الفنية للمدينة والحضور المبكر للنساء في الفن والحياة العامة. وفي الوقت الذي يحاول فيه بعضهم استحضار أفكار ظلامية عن صوت المرأة كعورة، يدرك الذوق الشعبي أنّ أيقونات الغناء العربي هي أصوات نسائية بالأساس.
تظاهرة «النساء تغني» أو أيام الأغنية الطربية النسائية التي نظّمتها الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، أقيمت حفلاتها في باحة قصر العظم، أحد أجمل المباني الدمشقية التقليدية. ويعود بناؤه إلى القرن الثامن عشر على يد الوالي أسعد باشا العظم. هذه التظاهرة التي تكونت من خمس حفلات أقيمت بعد أذان العشاء، كان حضورها مفتوحاً للجميع. وقدمت الفرصة إلى جمهور عريض لاستعادة الصلة بالأغنية الكلاسيكية العربية عبر أصوات كلبانة قنطار من سوريا وكريمة الصقلي من المغرب وفريدة العلي من العراق وجاهدة وهبي من لبنان ومجموعة رتيبة الحفني من مصر.
افتتحت التظاهرة بحفلة للمغنية السورية لبانة قنطار والفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو ماجد سراي الدين. إذ قدمت أغنيات لأسمهان وأم كلثوم («إيمتى حتعرف»، «ده لي يحب يبان في عينيه»). وبعض الأغنيات المحلية القديمة («آمنت بالله»). وقنطار هي أول مغنية أوبرا في سوريا، حائزة عدداً من الجوائز العالمية، ورئيسة قسم الغناء الأوبرالي في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، وأستاذة الغناء الأوبرالي والشرقي في المعهد. وقد بدأت في السنوات الأخيرة تحقق حضوراً خارج الأوساط الأكاديمية، عبر اتجاهها إلى الغناء الشرقي. إذ قدّمت في حفلة أقيمت قبل عامين في دار الأوبرا، تكريماً لمحمد القصبجي، عدداً من أغاني أسمهان وأم كلثوم. وفي العام الماضي، شاركت في حفلة أقامتها الأوبرا لإحياء ذكرى رياض السنباطي. وأستاذة الغناء لبانة قنطار، أثبتت أنها تملك تقنية الغناء الشرقي بشكل لا يقل عن تمكّنها من الغناء الأوبرالي. وإضافةً إلى صوتها الاستثنائي، تقدم قراءة غنائية للأغنية الشرقية الكلاسيكية.
الليلة الثانية كانت للمغنية المغربية كريمة الصقلي التي مثّلت مفاجأة سارة لجمهور سوري يلتقيها للمرة الأولى. وفي هذه الأمسية أيضاً ظلت روح أسمهان تحوم في المكان، فكأن الأجيال الجديدة من المغنيات الكبيرات لا يزلن يجدن في أغنيات المطربة والمرأة الغامضة المزيد من التحدي الفني. الصقلي قدمت مقترحها لأغنيات أسمهان، فلم تكن كالمقلّدات الكثيرات اللواتي يحاولن التشبه بالنموذج الأصلي بلا فائدة، فهي تملك من الموهبة والاستيعاب للموسيقى والغناء الشرقيين، ما يؤهلِّها لتؤدي بكل ثقة وارتياح أغنيات أسمهان وأم كلثوم، من دون أن يضطر المستمع إلى أن يحيل إلى صاحبة الأغنية الأصلية. حالة الطرب التي صنعتها الصقلي، والأصداء الطيبة التي تركتها دفعت بالمنظمين للحدث إلى تخصيص حفلة ثانية لها تختم بها التظاهرة. الصقلي غنت أيضاً موشحات أندلسية وقصيدة للشاعرة الصوفية الشامية عائشة الباعونية.
سيدة المقام العراقي فريدة العلي، أطلت على الجمهور السوري في اليوم الثالث. وكان قد سبق لها أن أحيت حفلة في دار الأوبرا في دمشق قبل عامين، مع فرقتها، فرقة المقام العراقي التي تأسست عام 1989 والتي يرأسها العازف والملحن محمد حسن كمر. وقد شاركت الفرقة منذ تأسيسها بما يزيد على 95 مهرجاناً وحفلة حول العالم. حفلة فريدة العلي تميزت بخصوصية التراث العراقي. وفريدة التي تملك صوتاً قوياً يكاد يكون رجولياً، هي إحدى النساء الأُوَل اللواتي كسرن احتكار الرجال لفن قراءة المقام. وهذه المغنية ذات التأهيل الأكاديمي، تعمل مع فرقة تحافظ على الأدوات الموسيقية العراقية التقليدية، وتقدم التراث العراقي بصورته الأصلية. على رغم أن عملها لا يخلو من تجارب لغناء قصائد حديثة ملحنة، إنما ضمن الخط الموسيقي نفسه.
مجموعة الحفني للموسيقى العربية من مصر التي تحمل اسم مغنية الأوبرا والأكاديمية المصرية المرموقة رتيبة الحفني، قدمت عدداً من أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم. عصام محمود اخترق الهوية النسائية للمهرجان وأدى بعض أغاني عبد الوهاب المعروفة. وعلى رغم امتلاك المغني الشاب صوتاً جميلاً ومعرفته بالأصول الأكاديمية للغناء، لم ينجح في أن يطرب، وبدا مصاباً بنزلة برد، ومتحدياً بصعوبة الطقس البارد في باحة القصر الدمشقي القديم. أما زميلته مي فاروق التي ظهرت بموهبة أكبر في أدائها لأغنيات أم كلثوم، فبدت أكثر تصميماً في التعامل مع الظرف المناخي، بعدما زوّدها أحد الحضور شالاً. واستطاعت أن تصل بالحفلة إلى بر الأمان، وخصوصاً مع التشجيع الذي منحها إياه تفاعل الجمهور (السمّيع). لكن كان من المفاجئ أن تظهر الأصوات القادمة من البلد الذي صنعت فيه معظم أغنيات التظاهرة على هذا النحو العادي. فيما الأداء الموسيقي للفرقة كان لافتاً.
اللبنانية جاهدة وهبي وفرقتها التي ربما كانت الأشهر بين مغنيات التظاهرة، اختبرت عن كثب اللقاء بالجمهور السوري. هناك من يعرفون أعمالها بشكل جيد، ويتابعونها، وهناك من يستمعون إليها للمرة الأولى، على رغم إطلالاتها التلفزيونية المتكررة. وهبي بدأت بـ«عندك بحرية» فأثارت الحماسة وأدخلت الجمهور في عالمها. لكن صوت وهبي الطموح في مطالعه القوية، كان يتحول في القفلات إلى نبرة خفيضة أو منسحبة أو يستعين بالمغنّين المرافقين. وهي انتقلت إلى تقسيم برنامجها بين أغنيات كلاسيكية جلّها لأم كلثوم، وأغنيات من تلحينها ومن كلمات شعراء عرب وعالميين، إثنتان منها لأحلام مستغانمي: «كتبتني» و«أنجبني». لكنها قلّما نجحت في إحداث تفاعل مع أغنياتها الخاصة التي جاءت خارجة عن المزاج الطربي والكلاسيكي للتظاهرة. إذ إن المستمع العادي يفضّل دائماً ما يعرفه، وهذه مشكلة لدى الجمهور لا لدى الفنان.


وعد عكس التيّار

خرّج قسم الغناء في المعهد العالي للموسيقى في السنوات الأخيرة عدداً من الأصوات السورية المهمة. وبعد المغنيات الأوبراليات لبانة قنطار ونعمى عمران وديما أورشو، ظهرت أصوات شابة كرشا رزق ولينا شماميان اللتين اتجهتا إلى الموسيقى البديلة، وليندا بيطار التي ظلت في منطقة وسطى بين الغناء الشرقي الكلاسيكي والأغنية الحديثة. لكن وعد بوحسون تمثّل حالة خاصة في خامة صوتها ومزاجها الموسيقي وخيارها الشرقي المحـض، وفي انشغالاتها التراثية وممارستها للتلحين. عازفة العود الشابة وصاحبة واحد من أجمل الأصوات العربية، والمؤسسة في التخت النسائي الشرقي السوري، أحيت حفلة قبل أيام في دار الأوبرا ضمن احتفالية العاصمة الثقافية، حملت عنوان «أحبك حبين». وغنت بوحسون قصائد لرابعة العدوية وطاهر أبوفاشا ومحمد الموجي. وذلك بمشاركة المنشد والمؤذن التركي يونس بالسي أوغلو، وعازف الإيقاع برونو كايا، وبقيادة عازف الناي التركي الكبير قدسي إرغونر. وعد بوحسون قدمت أخيراً حفلة موسيقية مع الأخوين بينيانـا من إسبانيا في قــــاعة السفراء في قصر الحمراء في غرناطة، نظمتها احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية. وسبق لوعد أن شاركت في عدد من المهرجانات العالمية في باريس، وأصيلة وتونس وفاس.