خالد صاغيّةمهما تكن النتيجة التي سيتمخّض عنها مؤتمر الدوحة، فإنّ قوى الأكثريّة التي ستعود إلى لبنان، لن تكون هي نفسها الأكثريّة التي عرفناها في السابق. لقد أدّت أحداث بيروت والجبل الأخيرة إلى فقدان المعارضة الكثير من رصيدها، لكنّها أدّت إلى فقدان الأكثريّة لنفسها.
نحن أمام مشهد يتراوح بين نقيضين: يمثّل وليد جنبلاط التسليم المطلق بنتائج الحملة العسكريّة. وهو مارس ضغطاً لإلغاء قرارَي الحكومة المشؤومين بالقوّة نفسها التي مارس بها الضغط لإقرارهما. انتقل جنبلاط سريعاً من موقع القيادة الفعليّة لقوى 14 آذار، إلى موقع قيادة طائفته الصغرى التي تعرّضت لضربة موجعة. في موقعه الأوّل، كان يقابل كلّ ضربة بمزيد من التطرّف. أمّا في موقعه الثاني، فلا خيار إلا اعتماد سياسة الحدّ من الأضرار.
على الضفّة المقابلة، يبدو سمير جعجع في حال إنكار كامل للواقع المستجدّ، ولا يكفّ عن الترداد أنّ ما جرى على الأرض لن تكون له انعكاسات سياسيّة، وهو العسكريّ الذي بنى كلّ أمجاده السابقة على قلب المعادلات السياسيّة بواسطة انقلابات عسكريّة. لكنّ جعجع المحاط بحلفاء مسيحيّين ضعفاء، والمحاصَر بميشال عون المتفاهم مع حزب الله، لا يملك غير إنكار الواقع وسيلةً لمواجهته. يزيد من صلابة هذا الإنكار أنّ أيّ نافذة على الواقع لن تطلّ إلا على استيعاب دروس «حليفه الاشتراكيّ».
يقف فؤاد السنيورة وسعد الدين الحريري في الوسط، وهما أقرب إلى الزوجين المخدوعين. الأوّل خدعته نفسه، وخدعه حلفاؤه السياسيّون الذين شكّل غطاءً لهم. بقي يردّد لازماته بشأن بناء الدولة، حتّى كاد يصدّق أنّ المعركة في لبنان تدور حول هذه النقطة بالذات، وأنّ قادة 14 آذار، وكوندوليزا رايس من وراء البحار، لن يتمكّنوا من النوم قبل تأمين احتكار الدولة للعنف، وقطع دابر الفساد.
لم يكن السنيورة قائداً شعبياً. لم يخضع نفسه لأي امتحان انتخابي، ولا يحمل من الصفات الكاريزميّة أكثر من نظيره سلام فيّاض. لكنّه لم يكن مجرّد واجهة لأمراء الطوائف والحروب والنهب المنظّم الذين يشكّلون قادة 14 آذار. لقد أراد أن يكثّف في شخصه ما يمكن أن نسمّيه أيديولوجيّة الدولة. لكنّه سقط في فخّ انعدام القدرة على التمييز بين المتخيّل والحقيقي. فذهب بعيداً في خطاب الدولة، وبدلاً من التعامل مع الأيديولوجيا وسيلةً لـ«صناعة» الأفراد أو وعيهم، تعامل مع الجماعات وسيلةً لخدمة الأيديولوجيا. فكان أن أدّى الدور المطلوب منه بأمانة: مزيد من تحلّل الدولة أمام زحف الطوائف.
خديعة الحريري الابن كانت مختلفة. إنّها خديعة ملعقة الذهب، إذا جاز التعبير. جاء إلى دنيا السياسة محاطاً بدعم شعبي ودولي جارف، فضلاً عن القدرات الماديّة الضخمة. لقد خدعه المحيطون به، أو ربّما لم يجدوا طريقة أفضل لتفسير تعقيدات العالم له. قسّموا له الدنيا، كما في الأفلام الهوليوودية، إلى الرجل السيّئ والرجل الجيّد (Good guys and bad guys). كان يجول في عواصم القرار في العالم، فلا يجد من يدحض له هذه الاختزالات. فالدور المراد له أن يؤدّيه لم يكن يتطلّب إدراكاً أكثر عمقاً. وجد الحريري نفسه فجأة في منتصف الطريق، وسط تعقيدات لا قدرة لمفرداته الضيّقة على التعبير عنها، فضلاً عن إيجاد تفسير لها أو التعامل معها.
لقد كانت لضربة حزب اللّه العسكريّة تأثيرات متفاوتة الأحجام على مركّبات السلطة. لا يمكن فريقاً أصيب بهذا القدر من التهشيم، أن يخوض حواراً منتجاً، وخصوصاً في ظلّ خصم ضاق ذرعاً بالسياسة، فلم يتورّع عن استخدام القوّة الصلفة.