بيار أبي صعبخلال الأسبوع الصعب الذي شهده لبنان، تبادرت إلى الأذهان أسئلة كثيرة عن موقف المثقف ودوره في قلب الدوّامة. هل هناك رابط صلب، بل لنقل قاسم مشترك بالحدّ الأدنى، يمكنه أن يجمع في هذا البلد بين الكتّاب والفنّانين والمبدعين والإعلاميين، والمثقفين عموماً، على اختلاف مللهم ونحلهم؟ إلى أي مدى بوسع كلّ هؤلاء، أو بعضهم، أن يقف ضدّ السائد، أن يتعالى فوق الأزمة؟ أو على الأقل ـــــ كي نبقى واقعيين ـــــ أن يبادر إلى مواجهة تلك الأزمة، الشائكة والمعقّدة والخطيرة، بأدوات أخرى، ومع شركاء يخالفونه الرأي أحياناً، بلغة مختلفة عن القاموس السياسي السائد، والانقسامات الحادة بين قطبين شاسعي البعد أحدهما عن الآخر؟
فكّرنا ـــــ انطلاقاً من مساءلة النفس ـــــ إلى أي مدى بوسع المثقف اللبناني اليوم أن يستحدث في الفضاء العام، أرضيّة للحوار والتواصل مع أقران وشركاء وزملاء وأصدقاء باتوا اليوم يصنّفون تجاوزاً في «الضفّة الأخرى»؟ هل هو قادر على وضع مسافة نقديّة بينه وبين الجماعة، الفئة، الحزب، المؤسسّة، الجهة السياسية التي ينتمي إليها، بشكل أو بآخر، بفعل قناعات أو عصبيات أو مخاوف أو مصالح... كي يجرّها وراءه إلى دائرة التفاهم الوطني، بدلاً من أن ينجرّ وراءها؟ هل المسؤوليّة الأخلاقيّة التي يضطلع بها تجاه المجتمع المدني تلزمه حقاً تجاوز انتمائه السياسي (وأحياناً مصالحه وامتيازاته)، بحثاً عن نقاط لقاء ممكنة مع «آخر» قد لا يكون بعيداً عنه في النهاية، خلافاً للمظاهر الإيديولوجيّة الطاغية؟
هذه الأسئلة وغيرها، حملها الزميل حسين بن حمزة الأسبوع الماضي، ومضى إلى بعض الشركاء والأصدقاء. لكنّه عاد خالي الوفاض. كلّما دقّ باباً، كان يطالعه الجواب نفسه: «هلّق (الآن) مش قادر إحكي!». إذا لم تحكِ الآن، فمتى تحكي يا صاحِ؟ ثم جاء الـبيان الذي طالعنا قبل أيّام، لنكتشف أنّ بعض زملائنا بيقدر يحكي، إنما من ضمن قوانين «عشيرته» ومفرداتها، ومن خلال لغة الافتراء والتهويل والتحريض ضدّ السلم الأهلي... تلك اللغة المعتادة التي علينا نبذها وتجاوزها مهما كانت قناعاتنا السياسيّة، لأنّها تجرح وتؤذي أكثر من الممارسات المسلّحة التي شهدتها بيروت خلال الأسبوع الأسود.
قلّة من الكتّاب والإعلاميين وقّعت على «نداء لمثقفين ونشطاء من أجل مقاومة مدنية سلمية دفاعاً عن لبنان». هذا صحيح. ومعظم هؤلاء مواقفه معروفة قبل الحوادث المؤسفة الأخيرة... ومع ذلك، فإنّ وقْع ذلك البيان لا يمكن إلا أن يكون مؤلماً وجارحاً. من يكتب (أو يوقّع) نداءً مطلعه: «بعد أن برز بوضوح أن ما يجري هو عملية انقلابية دموية تستهدف وجود الدولة اللبنانية، لا بل تستهدف الكيان اللبناني، من خلال الحرب المذهبية التي شنّها «حزب الله»، وبعد أن تأكّد أن مشروع «حزب الله» هو الاستيلاء على كامل السلطة في لبنان، وتدمير حيوية مجتمعه بغية إلحاقه بمحور غزة ـــــ دمشق ـــــ طهران (...)»، لا يترك للصلح مكاناً كما يقال. إنّه كلام فئوي يريد أن يفرّق لا أن يجمع. كلام حاد أشبه بـ «الحوربة» التي تشحذ همم المحاربين في الطريق إلى المعركة، يكيل افتراءات واتهامات عشوائيّة، غير دقيقة. ولا يشغل باله بردّ فعل الطرف الآخر ومن وما حوله، وما يمثّله من قيم وخيارات... ما دام الموقّعون قد آلوا على أنفسهم مهمّة إزالة هذا الـ «آخر» من الوجود («سلميّاً»)! هكذا يبدو المشهد ـــــ مرّة أخرى ـــــ جليّاً، ومذهلاً في وضوحه: قوى الخير تريد إزالة قوى الشرّ (لكن هذه المرّة ليس بالقنابل العنقوديّة، بل بالمقاومة المدنيّة!).
من كتب هذا النداء، أو وقّعه بعد قراءة متأنّية، يريد أن: «يدافع عن لبنان»، لكن ليس بوجه إسرائيل على الأرجح، ولعلّها في نظره عدوّ ثانويّ أو مفتعل! من كتب هذا النداء، يبدو من كلامه أنّه لم يؤمن يوماً بالمقاومة ودورها، كي نفترض أنّه الآن مصاب بخيبة كبيرة منها مثلاً، بعد حوادث ٨ أيّار (مايو) وما تلاها. طوال سنوات مضنية، أفلتت خلالها المقاومة من مطبات وفخاخ كثيرة، كان هناك من يستنح فرصة شرعيّة للانقضاض عليها وتهشيمها. وقد تنفّس هؤلاء الصعداء في الثامن من أيار/ مايو معتبرين أن الفرصة قد أتت. من يوجّه هذا النداء لا يفعل حرصاً على السلم الأهلي، وقوّة الدولة ومؤسساتها، وإلا لتفادى التجريح، ولفطن مثلاً إلى أن كل الطبقة السياسية مسؤولة بالتساوي عن انهيار المؤسسات الرسميّة. هل المطلوب إذاً هو المضيّ في الاتجار ببضاعة مربحة اسمها الحقد؟ هل المطلوب أبلسة الخصم قطعاً لكلّ الجسور التي تقود إلى مخاطبته وإقناعه؟... هل المطلوب هو الترويج لشعار «الفتنة المذهبيّة» القادرة وحدها على وأد السلاح الذي أوجع الغزاة صيف ٢٠٠٦ وقبله؟
كنا نحلم ببيان جامع يضم حساسيات واتجاهات مختلفة، يدين موقّعوه خطأ الانجرار إلى رمال الداخل المتحرّكة، ويتمنّون ألا يتكرّر ذلك أبداً، لكن بعيداً عن التضخيم والتهويل والتزوير... مؤكّدين في الوقت نفسه على إنجازات المقاومة في مواجهة العدوّ الإسرائيلي، وداعين إلى البحث عن سبل استثمارها في مجتمع السلام الأهلي ودولة المؤسسات الديموقراطيّة والعادلة والمطمئنة لكلّ أبنائها. كنا نتمنّى بياناً يدين كل أشكال المواجهة الفئويّة والمذهبيّة، ويوجّه في الوقت نفسه إصبع الاتهام بوضوح إلى كل المستفيدين من النظام الطائفي الذي هو أصل كل علّة وبلاء. كنّا سنوقّع بفخر على بيان يرفض كلّ أشكال الظلاميّة والأصوليّة والتطرّف أيّاً كان مصدرها ومموّلها، علماً بأن الفساد السياسي والاقتصادي هو الذي يدفع الناس إلى التعصّب والتطرّف. كنا نتمنّى أن يشير دعاة الانفتاح والليبرالية إلى السعوديّة، كما يشيرون إلى سوريا وإيران... وألا ينسوا الإشارة بوضوح إلى أن العدوّ الأساسي الذي يتهدد لبنان كياناً وشعباً هو إسرائيل.
لكن، لننسَ بيان الحقد هذا، كأنّه لم يكن. لنكتب معاً بياناً آخر يدين ما جرى خلال الأسبوع الأسود، بدءاً بالدعسة الناقصة التي ارتكبت في السرايا الكبيرة... ويدين حملات التسليح المنهجيّة في كل البلاد. لنكتب، من خارج لغة السياسة الآنية ومنطق السياسيين، باسم الوحدة الوطنيّة والاستقرار والتعدديّة والعلمانيّة والمشاركة الحقيقيّة في الحياة السياسيّة. إننا ننتظر موقّعي البيان السابق، وكل الذين لم يوقّعوه، للتعبير عن احتجاج مدني حقيقي. ننتظركم عند منتصف الطريق، تعالوا كما أنتم بأفكاركم وأوجاعكم. وليأت معكم حتّى... وليد فارس!