خالد صاغيّةبعد كلّ ما جرى، ها نحن أمام حوار في الدوحة، لا يستدعي جدول أعماله وطريقة تناول بنوده إلا الخجل والحسرة. الخجل من أنفسنا، والحسرة على أنفسنا أيضاً. فلنبدأ من بند رئاسة الجمهوريّة: حتّى كتابة هذه السطور، لم يرتفع صوت واحد في الدوحة يعترض علناً وصراحةً على انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهوريّة. ممثّلو الشعب اللبناني متوافقون على انتخاب رئيس لا نعرف شيئاً عن برنامجه. لا فكرة لنا عمّا سيطرحه للمساهمة في معالجة الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. لا فكرة لنا عن تصوّره لبناء الدولة. لا فكرة لنا عن قدراته التفاوضيّة التي ستؤهّله لأداء دور الحَكم بين اللبنانيّين. لا فكرة لنا عن قدراته في قراءة التطوّرات الإقليميّة والدوليّة، لمحاولة تجنيب لبنان نيران المنطقة المشتعلة. كلّ ما نعرف عنه هو وقوفه على الحياد، اضطراريّاً، منذ ارتفاع حدّة الاستقطاب السياسي والشعبي في البلاد. نعرف أيضاً أنّ قيادة الجيوش ليست مدرسةً في الدبلوماسيّة والتحكيم السياسي. ونعرف أخيراً هول ما جرى في نهر البارد.
رغم ذلك كلّه، المتحاورون في الدوحة لا يكفّون عن إقناعنا بأهميّة انتخاب العماد سليمان رئيساً توافقيّاً.
أمّا في بند الحكومة، فما نعرفه هو أنّ قتال المعارضة المستشرس للحصول على الثلث الضامن أو المعطّل إنّما يحمل عنوانين لا ثالث لهما: المشاركة والمقاومة. وهما عنوانان يُراد لهما إنهاء تهميش التمثيل المسيحي في الحكم منذ اتّفاق الطائف، منع التهميش الشيعي، وامتلاك حق الفيتو ضدّ أيّ قرار يستهدف سلاح المقاومة وحريّة عملها. هذه النقاط، على أهميّتها، لا توحي بوجود اختلافات في طريقة الحكم بين الفريقين، أقلّه في ما يخصّ مسألتين باتتا تهدّدان الحياة اليوميّة للمواطن.
أوّلاً، المسألة الاقتصاديّة: للتذكير فقط. عرف لبنان في الفترة الأخيرة ارتفاعاً هائلاً في أسعار السلع، وخصوصاً المواد الغذائية. لا مؤتمر الدوحة ولا استعراض المعارضة العسكري أدّى إلى خفض الأسعار. نعرف تماماً قصور السلطة وتقصيرها في هذا المجال، ونعرف انحيازها الطبقي. لكنّنا نعرف أيضاً مساهمة المعارضة في مزيد من التهميش للعمل النقابي، ونعرف أنّ رؤيتها الاقتصاديّة ليست بالضرورة مناقضة لرؤية السلطة، ونعرف أنّ المسألة المعيشيّة هي في آخر سلّم أولويّاتها. يكفي النظر إلى ما آل إليه الإضراب العمّالي الأخير، حين «ذهب بين الأرجل». رصدت السلطة له قنّاصين وزّعتهم ميليشياتها على أسطح المباني، واتّخذت منه المعارضة ذريعةً لشنّ حملتها العسكريّة.
ثانياً، المسألة الطائفيّة: ليست المسألة المطروحة الآن تجاوز النظام الطائفي. لكنّ ما يجب أن يُطرَح بشدّة هو التخفيف من حدّة التوتّرات الطائفيّة في الشارع. ليس هذا على جدول الأعمال. على عكس ذلك، تجري الاستعدادات لمزيد من الحقن، إذ باتت قوّة كلّ فريق تقاس بمدى الحقد الذي يتمكّن من تعبئة جماعته به. يكفي إلقاء نظرة على وسائل الإعلام المملوكة من جانب الأطراف المتنازعة. أهذا هو الخطاب الذي يحكم ما يسمّى زوراً بـ«الحوار»؟
لكنّ عشّاق السعار الطائفي عليهم التركيز على البند الثالث من جدول الأعمال، أي قانون الانتخاب. هنا المهزلة الحقيقيّة. ليست الاقتراحات المقدّمة هي المهمّة، بقدر منطلقات هذه الاقتراحات. لقد بات تقسيم الدوائر من دون مبادئ أو ضوابط إلا مصلحة التيّارات السائدة، أمراً طبيعيّاً. واحتلّت مسألة النسبيّة هامش الهامش. فالحلم بالمحدلات وبتسكير المناطق وإلغاء الآخر وإخماد صوته بأي وسيلة، هو السائد. مصلحة الفئات السياسية الصغرى، إبقاء ولو هامشاً للصراعات غير الطائفية، الأخذ بعين الاعتبار مصلحة الوطن الجامع لدى النظر بمصلحة الطوائف... هذه كلّها مسائل لا مكان لها في الدوحة، لا على جدول الرعاة العرب ولا على جدول الفرقاء اللبنانيين.
إنّه حوار لا يستدعي إلا الخجل والحسرة. الخجل من أنفسنا، والحسرة على أنفسنا أيضاً.