لا يجيد العرب التعامل مع تاريخهم، ولا يحبّذ زعماؤهم تسجيل اجتماعاتهم السرية... ومع ذلك، أصبح جمع الأرشيف واستخدامه هوساً منذ انتشار الفضائيات: من «الحلم العربي» فـ«الضمير العربي» إلى أحداث لبنان الأخيرة
محمد خيرالأرشيف هو البطل الحقيقي لما عرف باسم «أوبريت الضمير العربي». وعلى رغم أن الأغنية العربية عرفت أشكالاً عدة، هي الدور والموشّح والموّال والطقطوقة، والنوع الأخير هو السائد موسيقياً الآن، قبل أن يستورد الأوبريت على أيدي الرواد، لم يجرؤ أحد من أولئك على إطلاق اسم «أوبريت» على أغنية عادية. فالأخير شيء مختلف تماماً إلى درجة يدركها ـ بمجرد السماع ـ حتى غير المتخصصين، وهو أقرب شيء ممكن إلى المسرح الغنائي.
الترويج لأوبريت «الضمير العربي»، استدعى التذكير بأعمال «شبيهة» من وجهة نظر المروّجين، مثل الأغنية الشهيرة «وطني الأكبر» التي لم يكن عبد الوهاب بالطبع ليرتكب خطيئة تسميتها «أوبريت»، كما فعل بعض المروّجين والمتحمّسين. والمشاهد الأرشيفية التي تعتمد عليها أغنية «الضمير العربي»، كانت قادرة على استنزال الدموع من أعين المشاهدين. كيف لا تفعل؟ فإن ثمة أسباباً أشد قوة للبكاء، أولها المقارنة بين زمن «وطني بيكبر وبيتحرر»، وزمن «ماتت بنا النخوة». لكن الأسوأ هو أن يكون اللحن المهيب الزخم لعبد الوهاب، وكلمات أحمد شفيق كامل اللاهبة المتنوعة، محلاً للمقارنة بتيمة موسيقية يتيمة لا تنفكّ تتكرر حتى ليبحث السامع بإبرة عن لحن الأغنية. أما الكلمات، فيكفي تأمل المقطع المبدع التالي «مات الإحساس جوانا/ ولا احنا اللي أموات/ ولا ضمير العالم/ خلاص إحساسه مات». علماً أن دروس البلاغة للمبتدئين ـ والفطرة البشرية ـ لا تنصح بتكرار اللفظ نفسه إلا بمعنى جديد. وإذا كانت أغنيات زمن الفيديو كليب في معظمها تعتمد تيمة موسيقية جذابة لتركيبها على «أي كلام»، فلماذا ترتكب أغنية «هادفة» الخطأ نفسه؟ الفن عدوّ التفاهة، لكنه أيضاً لا يعرف حسن النيّات. فضلاً عن الاعتماد الكامل ـ في عمل موسيقي ـ على أرشيف الصور، تماماً كما حدث قبل عشر سنوات في «أوبريت» الحلم العربي. «الحلم» كان أكثر قدرة على مداعبة الحنين، (من ينسى صورة عبد الناصر يبكي؟). ذلك لاعتماده على أرشيف أقدم يغطي مساحة زمنية واسعة. أما العمل الأحدث، فيغطي فترة أقل في عمر الزمن، أطول في مدة الأغنية، مع كثير من التواريخ القليلة الدلالة، مثلاً: لماذا تظهر الشاشة تاريخ يوم محدد مكتوب فوقه «الاقتتال الطائفي في العراق»؟ هل توقف ذلك الاقتتال يوماً منذ وقع الغزو؟ مثل ذلك تفجيرات في السودان وفي المغرب العربي... كلها تواريخ لا يمكن مقارنتها بمثيلاتها في الأغنية الأولى، مما تضمنّه «الحلم العربي» (1948، 23 يوليو، 5 يونيو، 6 أكتوبر، 1982، 1990، 1996). فضلاً عن أرشيف «قومي» ـ إن صح التعبير: صور يتوحّد عليها العرب ويميّزونها فوراً، جنازة عبد الناصر، لقطات من صبرا وشاتيلا، مذبحة قانا، المطارات المدمرة في النكسة. لكن أرشيف «الضمير العربي»، احتاجت صوره إلى تعليق توضيحي لنعرف إن كنا في فلسطين أو العراق... ولم يكن واضحاً الهدف من بث لقطات لاعتداءات 11سبتمبر، وتفجيرات كينيا وتنزانيا. كما أنّ صور اقتتال «حماس» و“فتح»، وأحداث جامعة بيروت العربية، تثير الأسى بلا شك. لكنها تحتمل تأويلات سياسية بأكثر مما تحتمل (ماتت بنا النخوة)، ما يحيلنا إلى نقطة جديدة. كلمات «الحلم العربي» التي كتبها مدحت العدل، لم تكن شديدة التميز. لكنها ـ على الأقل ـ كانت ذات علاقة بالصور المعروضة كل لقطة لها «كوبليه» مميز، مثلاً «محتاج العدل لقوة/ علشان تقدر تحميه»، تواكب للقطات الطائرات المصرية تقلع في اتجاه سيناء في حرب أكتوبر. لكن في «الضمير العربي» لم تتفق الكلمة مع الصورة إلا في «المناحة» التي نصباها معاً، بالتالي لا يمكن أن تتذكر صورة معيّنة لدى سماع مقطع محدّد، وهي مشكلة كبيرة لعمل تلفزيوني، حتى لو كان هادفاً!
في الأزمة السياسية اللبنانية الأخيرة، لم تقلّ حدة معركة الميديا عن معركة السلاح والمفاوضات. واستخدمت شاشات الفضائيات كمنصات إطلاق موجهة، بدا فيها كظاهرة جديدة، نوع من «الأرشيف الموّجه». وقد استخدمت فيه كل محطة مخزونها الاستراتيجي من اللقطات التلفزيونية الأرشيفية، مستندةً إلى قاعدة «الصورة بألف كلمة»: ها هي قناة تعرض لقطة لعنصر من المعارضة يصعد عموداً عالياً فإذا به يسقط علم بلاده ليضع مكانه علم حزبه، وها هي صورة لنسخة من قرار حكومي بترقية ضابط وهو ما زال قيد التحقيق. هنا، تصريح سابق لمعارض يتحدث عن استحالة استخدام السلاح في الداخل، وهناك لقطات لإطلاق نار من مسلحين منتمين لقوى الأكثرية.
في الشاشات العربية غير المحلية استخدم الأرشيف بصورة أخرى. تبارت المحطات على بث لقطات متنوعة من خطب واجتماعات واغتيالات. كلٌّ قام بترتيب لقطاته حسب موقفه، اللقطات بهذا الترتيب تظهر الأحداث انقلاباً قامت به المعارضة، وبترتيب آخر فالأحداث دفاع عن النفس وعن سلاح المقاومة، والمُشاهد حائر بين الأحداث المتسارعة، يتذكر حدثاً وينسى أحداثًا ووعوداً واتفاقات. هكذا فإنه يتخذ ـ في كثير من الأحيان ـ قراراً عجيباً. إذ بدلاً من أن يبني موقفه بناءً على ما يشاهد، فإنه يختار أن يشاهد المحطة التي تناسب موقفه... فماذا يبقى إذاً من لفظة «الإعلام»؟