أفلام عن القمع والعنف والانسحاق في زمن العولمةالمهرجان الذي اختتم مساء أمس، فاجأ الجميع بتتويج الفرنسي لوران كانتيه عن فيلمه «بين الجدران»، كما أعاد الاعتبار إلى السينما الإيطاليّة والأوروبيّة. لقد كان لرئيس لجنة التحكيم شون بين ما أراد: تسليط الضوء على أعمال تتناول عصرنا الحافل بالصراعات والقضايا الإنسانيّة
كان (جنوب فرنسا) ـ عثمان تزغارت

كنّا ننتظر المفاجأة من مكان آخر هذا العام... لكن حفلة الإعلان عن جوائز «مهرجان كان» الحادي والستين مساء أمس، أخذت الجميع على حين غرّة. سمعنا أكثر من ناقد يندب حظّه عندما وقف رئيس لجنة التحكيم الدوليّة، الممثل والمخرج الأميركي شون بين، منفعلاً، يعلن اسم الفائر بالسعفة الذهبيّة: المخرج الفرنسي لوران كانتيه عن فيلمه «بين الجدران»: «اللعنة، لم أفكّر حتّى في مشاهدة هذا الفيلم الفرنسي ــــ علّق أحدهم ــــ قلت لا شكّ في أنّه فيلم مضجر آخر... على الطريقة الفرنسيّة!».
شون بين الذي نجح في إقناع كل أعضاء لجنة التحكيم الدوليّة، على ما يبدو، بهذا الخيار، إذ أعلن أن الفيلم الفائز تمّ اختياره بالإجماع، أراد منذ البداية أن يعيد الاعتبار إلى نوع معيّن من السينما، يحتلّ الصدارة فيه الهمّ الإنساني والاجتماعي... همّ المواطنة والوعي السياسي في اللحظة الراهنة إذا شئنا الاختصار، لذا راهن النقّاد على فيلم «سياسي». فيما فيلم كانتيه، يدخل السياسة من أكثر أبوابها تواضعاً ورسوخاً: من المشاغل الاجتماعيّة في فرنسا التي تشهد هزّات سياسيّة وأزمات متعددة. الفيلم يدور حول طلاب الصف الرابع تكميلي في ثانويّة في ضواحي باريس... ويحكي كيفيّة انخراط مدرّس اللغة الفرنسيّة في رهان تربوي وسياسي وإنساني: فتح تلك المجموعة المتعددة الاثنيات والخلفيات الاجتماعيّة والثقافيّة، على المجتمع والعالم، وإخراجها من الهامش الذي ينعزل فيه الأفراد مرغمين، في مجتمع معولم تحميه قيم السوق... هل هناك سياسة أكثر صدقاً من ذلك؟ علماً بأن الفيلم مقتبس عن كتاب لمدرّس فرنسي عاش تلك التجربة ودوّنها، وهو يمثّل في الفيلم الذي شبّه بفيلم شهير لبيتر وير هو «حلقة الشعراء المنقرضين» Dead Poets Society (١٩٨٩).
لكن المفاجأة الأهم التي تأتي بها الدورة الحادية والستون من «كان» ــــ دورة شون بين إذا جاز التعبير ــــ هي عودة السينما الفرنسيّة! وهذا الإنجاز... سياسي هو الآخر. آخر مرّة كانت السعفة الذهبيّة من نصيب فرنسا في المهرجان العريق، كانت قبل... ٢١ عاماً، حين فاز بها موريس بيالا عن فيلمه «تحت شمس الشيطان». وهذه الدورة الأوروبيّة بامتياز تتوّج أيضاً السينما الإيطاليّة من خلال المخرجين ماتيو غاروني وباولو سورينتينو... وفيلماً تركيّاً من إخراج نوري بيلج سيلان، إضافة إلى التكريم الخاص الذي كان من نصيب النجمة كاترين دونوف بطلة فيلم أرنو ديبليشان الجديد، من دون أن ننسى جائزة الأخوين داردين البلجيكيين... يكون النصاب قد اكتمل، ويكون شون بين، حقّاً، مرّ من هنا...
وبغض النظر عن تضارب الآراء والجدل الذي يرافق دوماً خيارات لجنة التحكيم، فإنّ السمة الأساسية لهذه الدورة هي، بلا شك، التيمات الإشكالية والرؤى السوداوية التي تلقي نظرة قاتمة على راهننا. ومن أبرزها تيمة الفرد المسحوق في مواجهة تعدد السلطات القمعية، سياسية كانت أو اقتصادية أو إجرامية. فتساقط الأطر والضوابط السياسية والقانونية والأخلاقية في ظل زحف العولمة لم يفرز ــــ كما كان يحلم به بعض المتفائلين ــــ مزيداً من الحرية والانعتاق، بل ضاعف من أصناف القمع ومصادره. فالفرد المسحوق لم يعد يواجه سلطة أو جماعة قمعية واحدة، بل سلطات وجماعات شتى.
قد تكون هذه السلطات القمعية هي المافيات التي تتاجر بمصائر الناس ومعاناتهم سعياً وراء الربح، كما في «صمت لورنا» للأخوين داردين (جائزة أفضل سيناريو)... وقد تكون تلك السلطة القمعية تحالفاً إجرامياً بين عصابات المافيا وجماعات النفوذ والسلطات الرسمية الفاسدة، كما في «المبادلة» لكلينت إيستوود (نال مناصفة مع الممثلة كاترين دونوف الجائزة الخاصة للدورة 61 عن مجمل مسيرتهما الفنية)، أو في «غومورا» (الجائزة الكبرى) للإيطالي ماتيو غاروني الذي يرسم صورة حادة للمافيا في كالابريا أو فيلم «ايل ديفو» (جائزة لجنة التحكيم) للإيطالي باولو سورينتينو، أو فيلم «الجوع» للبريطاني ستيف ماكوين (جائزة «الكاميرا الذهبية» التي تمنح لأحد الأفلام المشاركة في «نظرة ما» و«أسبوعي النقاد»...). وقد يتعلق الأمر بقمع كلاسيكي مدعوم من «المنظومة الدولية»، أو بالأحرى من الولايات المتحدة والموالين لها غرباً وشرقاً، كما هي الحال بالنسبة إلى التأييد الأعمى للسياسات الاعتدائية الإسرائيلية في «ملح هذا البحر»، أو بالنسبة إلى تورّط الغرب، أيام الحرب الباردة، في جرائم مشينة بدافع محاربة الماركسية، كما ينعكس ذلك بوضوح في الفيلم الملحمي الذي اقتبسه ستيفن سودربرغ عن سيرة الثائر البوليفي تشي غيفارا، وقد نال بطله بينيسيو ديل تورو جائزة أفضل ممثّل...
وقد تكون معاناة الفرد المسحوق نابعة من الحيرة والضياع في خضم «برج بابل» المعولم الذي نعيش، حيث لم يعد أحد يفهم الآخر أو يتواصل معه، كما في «القردة الثلاثة» (جائزة أفضل إخراج) للتركي نوري بيلج سيلان، أو في «بين الجدران » (السعفة الذهبية)، حيث أستاذ شاب في اللغة الفرنسية يجهد لتلقين تلاميذه لغةً مختلفةً عن تلك التي يستخدمونها في مراسلاتهم الإلكترونية... أو في «عبادة» للأرمني الكندي أتوم إيغويان (جائزة لجنة التحكيم المسكونية).
ولعل التيمة الثانية الأبرز في أفلام هذه الدورة تتعلق بالتمزق العاطفي والعائلي بمختلف أشكاله: الأم بطلة «قصة عيد الميلاد» لأرنو ديبليشان (كاترين دونوف) تقطع صلاتها بأحد أبنائها الذي تكرهه لسنين طويلة، فإذا بها تُصاب بنوع من السرطان لا يمكن أن تشفى منه سوى بزرع عيّنة من النخاع الشوكي لهذا الابن... أو الأم الفقيرة (ساندرا كوفيلوني ــــ جائزة أفضل ممثّلة) التي ترعى عائلتها في «لينا دو باش» للمخرجين والتر ساليس ودانييلا توماس... والحبيب الذي تتنازعه «عاشقتان» في فيلم جيمس غراي، أو الحب غير المتكافئ بين مصوّر عجوز أفل نجمه وعارضة صاعدة في فيلم «تصوير في باليرمو» لفيم فندرز...


مشـاريع عربية في الكواليس

رغم الغياب العربي شبه الكامل عن المسابقة الرسمية للمهرجان، في دورته الحادية والستين، يبقى «كان» مناسبة ثمينة لكثير من المخرجين والمنتجين والموزعين العرب. هنا يضع هؤلاء إجمالاً اللمسات الأولى لمشاريعهم المستقبليّة. مشاريع سينمائية عدة أُعلن عنها على هامش «سوق الفيلم»، أبرزها اتفاق وقّعته التونسية مفيدة تلاتلي مع شركة الإنتاج الفرنسية Les films A4 التي يديرها النجمان أنياس جاوي وجان بيار باكري، لإخراج شريط يسجل عودة هذه السينمائية البارزة للوقوف وراء الكاميرا لأول مرة منذ «موسم الرجال» (2000). يروي الفيلم قصة رجل خمسيني يتبنّى طفلاً يتيماً يعاني اللعثمة. لكنّ الطفل يكبر ويصبح مغنّياً متفوّقاً. ومع تنامي شهرته، يشعر العجوز بـ«اليُتم» لأن الطفل اليتيم الذي ربّاه بدأ يبتعد عنه.
اللبنانية نادين لبكي التي شاركت، إلى جانب مفيدة تلاتلي، في ندوة عن المخرجات السينمائيات، وقّعت أيضاً عقداً ثانياً مع المنتجة الفرنسية آن دومينيك توسان التي أنتجت باكورتها «سكّر بنات»، وما زال المشروع في مراحله الأولى.
أما المخرج المصري عادل أديب الذي يرأس قطاع السينما في شركة «غود نيوز» الإنتاجية، فأعلن على هامش «سوق الفيلم» ـــــ حيث شارك بـ«ليلة البيبي دول» ـــــ عن مشروع جديد للشركة يتعلق بإنتاج فيلم ثان من إخراج مروان حامد الذي وقف وراء الكاميرا في أول الأعمال التي قدّمتها «غود نيوز» وأشهرها، أي «عمارة يعقوبيان».
المخرج الفرنسي ذو الأصل المغربي، رشيد بن صالح، وقّع عقداً لإنتاج فيلم عن شبان الضواحي في فرنسا. وتشارك في الفيلم النجمة رشيدة براكني التي يقال إنّها وقّعت عقداً مع التلفزيون الفرنسي الرسمي، «فرانس تلفزيون»، لخوض أول تجربة لها وراء الكاميرا. ويُتوقّع أن تقتبس «كارمن» في فيلم يؤدي بطولته الممثّل ولاعب كرة القدم السابق إيريك كانتونا. وأُعلن أيضاً أن يامينة بن غيغي، المخرجة الفرنسية ـــــ الجزائريّة الأصل، وقّعت عقداً لإنتاج فيلم جديد ستؤدي بطولته النجمة إيزابيل أدجياني التي ستسجّل أول ظهور لها على الشاشة الكبيرة بعد ست سنوات من الغياب.
كذلك أعلنت بن غيغي عن تأسيس مهرجان سينمائي لتشجيع حوار الثقافات، سيُقام بين جنيف وباريس، وتتشارك في إدارته مع السينمائي الفلسطيني هاني أبو أسعد (صاحب «الجنة الآن»). وستجري فعاليته في 9 و10 ت١/ أكتوبر المقبل في جنيف ثم ينتقل إلى باريس يومي 11 و12 ت١/ أكتوبر.


لبنان في «كان»: كاترين (دونوف) تريد أن ترى في بنت جبيل...«بدّي شوف» (أريد أن أرى) الذي حمل السينما اللبنانيّة إلى «كان» هذا العام، قوبل بحفاوة نقدية جاوزت حدود التعاطف المبدئي ـــــ أو السياسي ــــــ مع ضحايا الحرب في لبنان. فقد لفت المخرجان الأنظار بشكل خاص على صعيد الأسلوب واللغة السينمائية، إذ يقفان في هذا الفيلم ـــــ كما فعلا في «يوم آخر» ـــــ في موقع وسط بين التوثيق والسينما الروائية، ويستعيران من الفنون التشكيلية لغةً سينمائية بصرية ومكثفة، وسمات أسلوبية تجعل هذا الفيلم أقرب إلى العرض الأدائي.
ماذا تستطيع السينما أن تفعل للإحاطة ببشاعة الحرب؟ تساءل المخرجان، وهما يتابعان من باريس أحداث «عدوان تموز» الذي تفجّر عندما كانا في العاصمة الفرنسية، ما حال دون عودتهما إلى لبنان، فاضطرا إلى متابعة الحرب على التلفزيون. في عصر الفضائيات وتكنولوجيا الاتصال التي تعطينا الانطباع المخادع بمتابعة الحرب «على الهواء مباشرة»، وضع حاجي ــــــ توما وجريج الإصبع على الجرح، مشتغلَين على سيل الصور المتدفّق، ومدى قصوره عن الإحاطة بجوهر المعاناة الإنسانية في أوقات النزاعات والحرب.
«لا.... أنت لم ترَ شيئاً من هيروشيما»، تردّد بطلة ألان رينيه ومارغريت دوراس في فيلم «هيروشيما يا حبّي» Hiroshima mon amour. «أريد أن أرى» تقول النجمة الفرنسية كاترين دونوف، بطلة جريج وحاجي ـــــــ توما. وبين الرغبة في الاطّلاع والرؤيا المستعصية، تحرّك المخرجان في فضاء تجريبي، يستعير بعض مبادئ سينما الموجة الجديدة: لا سيناريو مسبّقاً، بل خلطة سحرية تزاوج بين التسجيلي والروائي. صوّر الفيلم خلال ستة أيام فقط، إذ قامت الكاميرا بتعقّب ممثّلَين ينطلقان في سيارة على الطريق، وسط دمار الحرب، في اتجاه الجنوب، ليتحمّلا ـــــ ومعهما فريق الفيلم بأكمله ـــــ مشقّات مثل هذه الرحلة وعقباتها ومخاطرها، كأي من اللبنانيين الذين سلكوا الطريق الوعرة ذاتها خلال الأسابيع الصعبة التي تلت العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف ٢٠٠٦.
ما تستطيع السينما (وما لا تستطيع) استيعابه، وقوله عن دمار الحرب وما يرافقها من معاناة... هذا ما يحاول الفيلم إبرازه عبر لعبة مرايا متقنة، تجعله يقفز برشاقة بين قصّة الممثّلة الفرنسيّة كاترين دونوف التي جاءت تريد أن تكتشف وترى، وقصّة رفيقها في هذه الرحلة إلى الجنوب، الممثل ربيع مروة الذي يرافع ويحكي ويشتكي بلا انقطاع، فيما دونوف تكتفي بالإصغاء والمشاهدة. وفي أحد أقوى مشاهد الفيلم، تنقلب الأدوار وتتطاير شظايا المرايا التي تقوم عليها اللعبة... تمّحي الحدود بين الواقع والخيال، عندما تلتقط الكاميرا، مثلاً، لحظة رعب ـــــ حقيقة، لا مركّبة ـــــ في عيني دونوف، حين تحلّق فوق رأسها طائرات الجيش الإسرائيلي متعمّدة اختراق جدار الصوت لإثارة الرعب في سكان المنطقة. أو حين يتملّك الحزن والتأثر ربيع مروة، وهو يفتش بين الأنقاض عن بيت جدّته في بنت جبيل... من دون جدوى.
قوة هذا الشريط لا تكمن فقط في المقاربة المغايرة التي يعتمدها للإحاطة ببشاعات الحرب، وبالدمار الآخر (غير المرئي) الذي تركه العدوان الإسرائيلي في النفوس، وفي المخيّلة الجماعيّة. إنّه أيضاً تأمّل صادق وعميق، عن ماهيّة الفن ودوره... جدواه وحدوده، وقصوره في مواجهة العنف والشر المتجذّرين في الذات البشرية