حين يلتقي الواسطي وبول كلي فـي أحضان الطبيعة «المجرّدة»حسين بن حمزة

ما إن يُذكر اسم فاطمة الحاج (1953) حتى تُستدعى الطبيعة إلى أذهاننا فوراً. لكثرة ما نقلت هذه الرسامة اللبنانية الطبيعة إلى لوحاتها، صارت الطبيعة واحدة من المسلّمات التشكيلية الملازمة لعملها. واللوحات الـ 44 التي تشكّل معرضها الحالي (غاليري ألوان) لا تشذُّ عن تلك الفكرة. الطبيعة تستحوذ على البطولة المطلقة في المعرض. لكنها، في الوقت نفسه، ليست ذات «طبيعة» واحدة. إنّها تحضر بكيفيات مختلفة، وتقترج ثيمات وتفصيلات وزوايا نظر متعددة. كما أنّها تحضر أحياناً بوصفها بيئة أو إطاراً لموضوع ليس له علاقة مباشرة بالطبيعة.
لكن، لماذا كل شيء في لوحتها يحضر مصحوباً بالطبيعة؟ تجيب فاطمة الحاج: «لقد ولدت في الطبيعة. أعيش وأعمل في بيروت، لكني لا أرسم فيها. هل أرسم الباطون؟ أغلب أعمالي أنجزتها في الرميلة (على الطريق الساحلية الجنوبية) حيث أقضي فصل الصيف وأيام العطل. علاقتي بالطبيعة سابقة على الرسم. الرسم جاء وأنا جزء من الطبيعة، ومفتونة بها. دراسة الرسم منحت علاقتي بالطبيعة إطارها البحثي والأكاديمي والتاريخي. هناك تاريخ طويل للطبيعة في أعمال الرسامين في كل أنحاء العالم. أنا جزء من هذا التاريخ».
الداخل إلى معرض فاطمة الحاج، سرعان ما سيجد نفسه أمام احتفالية لونية. الطبيعة في الخلفيّة، والألوان تمارس نفوذها الكرنفالي على العين. الطبيعة هنا هي ألوان ومشتقات ألوان أكثر من كونها عناصر ومكوّنات موجودة بشكلها الأصلي والبديهي. زائر المعرض لا يرى مناظر طبيعية كما هي مرحّلة إلى اللوحة، بل يرى ارتجالاتها وممكناتها اللونية. اللون يُحضر معه الضوء والظل. إنهما يحدّدان موضع كل لون وسماكته على سطح اللوحة. أين يثرثر اللون ويستطرد، وأين يصمت وتخفت نبرته. أين تتمادى مساحات ألوان بعينها وأين تنكمش مساحات ألوان أخرى.
إذا كانت الطبيعة، بمقاصدها العديدة، صفة ملازمة لعمل الحاج، فإن النفوذ اللوني المتأتي من الطبيعة يُلزمها بمرجعيات ومصادر تشكيلية أيضاً. الانطباعية كمزاج عام ليست غائبة هنا. ماتيس موجود أيضاً. الانطباعية وماتيس، مع آخرين طبعاً، يقطنان في تحتانيات النص اللوني لفاطمة الحاج. هل استخدام مفكرة لونية معينة هو الذي يصنع هذا الإحساس؟ تسارع فاطمة الحاج إلى القول بأنّ ميولها اللونية تكوّنت قبل أن تسمع بماتيس. لكنها ترى أن ماتيس هو اسم أساسي في الفن التشكليلي برمته، وحضوره طبيعي لدى أي رسام لا يزال يصرُّ على إنجاز لوحة ذات هوية تشكيلية ولونية واضحة: «أحب ماتيس، ولكن لا أعرف كم هو موجود الآن. ثمة تباعد حتى بالنسبة إلى طريقة استخدام اللون. ماتيس غالباً ما يحافظ على إحساس الضربة اللونية الأولى. وهذا ما يتعارض مع السماكات اللونية وطبقاتها غير المتكافئة في شغلي».
الواقع أن استدعاء ماتيس والنفوذ اللوني القوي في شغل فاطمة الحاج، مردُّهما إلى «سمعة» رافقت عدداً من معارضها السابقة. في معرضها الحالي، نعثر على موضوعات ومقترحات ومهارات متعددة. الطبيعة هنا ليست صافية دوماً، وليست ذات مصدر طبيعي محض. نجدها مخترقة بشخوص. إضافةً إلى حضور ثيمة المكتبة، والخط العربي ذي الحضور الغامض، في عدد من اللوحات. فاطمة الحاج تعزو ذلك إلى تأثير عميق وغير مباشر لرسامين من عالمين وعصرين مختلفين تماماً. بحسب رؤيتها، فإن البهجة اللونية آتية من الرسام الألماني ــــ السويسري بول كلي (1879 ــــ 1940)، بينما يقف الواسطي الذي عاش في نهاية العصر العباسي (وهو أول رسام بالمعنى الحديث في العالم العربي والإسلامي)، وراء ثيمة الكتب والخط. فاطمة الحاج التي قدمت أطروحة كاملة عن الواسطي في المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية ــــ باريس، تستعيد صرخة بول كلي «أنا واللون شيء واحد» التي أطلقها أثناء زيارته لتونس عام 1914: «الموضوع إذن له علاقة بالنور وكيفية توهجه في اللوحة. بول كلي وماتيس، وغيرهما، أخذوا هذا من الشرق. اللون نفسه يعمل على خلق صلات بين الواسطي وبول كلي أيضاً. وهذا ما يسهِّل حضورهما كمؤثرات لا مهرب منها في عمل أي رسام يشتغل بالألوان».
تشهد لوحات المعرض سيطرة للأحمر ــــ بعائلته اللونية الأوسع ــــ وكذلك الأصفر والأخضر. ثمة شخوص وأشياء تخترق التجريد اللوني. لكنه اختراق محدود. الشخصيات والأشياء حاضرة وفق شروط التجريد. على مختلف العناصر أن تتخلّص من ثقلها التشخيصي، كي يُسمح لها بالإقامة والتنفس في لوحة مستسلمة لشاعرية الطبيعة وألوانها. لعل هذا يفسِّر الملامح الممحوّة للأشخاص (على قلّتهم بأيّة حال)، بحيث يستطيع اللون أن يمزجهم مع الطبيعة، ويجعلهم مجرد كتل ذائبة في ألوان الطبيعة. الأشخاص هنا ليسوا أكثر من متنزهين يقضون أوقاتهم في كنف الطبيعة. وهذا ما يجعل تجريد الطبيعة يتفوق على وجودهم التشخيصي فيها. فاطمة الحاج تفسر ذلك بالقول:«ذوبان الأشخاص في لوحة كهذه يوحِّد مزاج اللوحة نفسها، ويلغي الارتطامات غير المأمونة داخلها».
الماضي المتين لتجربة فاطمة الحاج، ومهاراتها الذاتية، يعطيان لوحتها طابعاً رصيناً ومتماسكاً. ثمة تقاليد راسخة في لوحتها. قد يعجبك عملها أو لا يعجبك، لكن من الصعب أن تتجنّب الحضور القوي لنبرتها التشكيلية. القوة التعبيرية الواضحة لموهبة فاطمة الحاج تضيف صفة أخرى إلى عملها. نسألها إن كان ذلك يجعل لوحتها «مثقفة»؟ فتجيب: «لا أريد لعلاقتي الطويلة مع اللون أن تجعلني أسيرة الحرفية والتقنيات. الحالة الأولى أو المادة الخام التي تقودني لاحقاً إلى لوحة كاملة، لا تزال تعني لي الكثير. لعل الممارسة المستمرة زادت من قدرتي على التكثيف والحذف. صار الحوار بين الألوان أخفت وأكثر عمقاً. لكنني لا أعرف ماذا تعني صفة «مثقفة»، وأين تتحقق في لوحة تشكيلية. ما أعرفه أن ثقافة الرسام ــــ الفنية وغير الفنية ــــ تتسرّب بطرق مختلفة، وغير مرئية أحياناً، إلى رسومه. أظن أن اللوحة تَفْقَر إذا اعتمد صاحبها على خبرة اللون فقط. ثمة أعمال عدّة أنجزتها تحت تأثير الشعر والموسيقى».

حتى 2 حزيران (يونيو) المقبل ــــ «غاليري ألوان»، الصيفي: 01975250



«أمم» بين التجهيز والنضال البيئي: الفنّ يذهب أيضاً إلى «القمامة»بمشاركة أكثر من 40 فناناً من الولايات المتحدة والبرازيل وإسبانيا ومصر ولبنان، نظمت الأميركية تايلور ستيفنسون معرضاً يقع بين النضال البيئي والتجهيز الفني. القمامة التي تشكل صداعاً مزمناً للعالم المعاصر، تتحول هنا إلى نوع من الفن. ثمة جمعيات صغيرة ومؤسسات غير حكومية تنشط في موضوع تدوير القمامة وإعادة تصنيعها بهدف تقليل مخاطرها على سكان الكوكب. بعض هذه الجمعيات يشارك في المعرض. النضال البيئي مدفون تحت هواجس فنية. وهذا ما يجعل الزائر يتقبل فكرة المصالحة مع المخلفات والأشياء التي تبدو عديمة النفع.
ينجح المشاركون في المعرض في اقتراح مصائر بديلة قابلة للحياة، وجذابة معاً. في وسط المعرض، نجد فرقة موسيقية تعزف على آلات وطبول لن يطولَ أجلُ تحولها إلى قمامة. ونجد عملاً تجهيزياً مستقلاً (كريستوف قطريب وياسمينا رفول) يتألف من عبوات بلاستيكية من المفترض أنها تحتوي على دموع اللبنانيين. العبوات موصولة بأنابيب إلى برميل من المفترض أن يصنع «لقاح الوحدة الوطنية».
على الجدران والزوايا عُلّقت الأعمال التي تسعى إلى تدوير النفايات أو ابتكار أشكال ووظائف جديدة لها: حقائب مصنوعة من ملصقات إعلانية، وفساتين مصنوعة من أكياس البلاستيك (تايلور ستيفنسون). جزادين من الكاوتشوك الداخلي لدولاب سيارة (زينة الخليل ــــ لبنان). دمى من أغلفة الحلوى وأسلاك الهاتف (ديان كرزينا). قبعات من أكياس نايلون مضفورة (ماي جونسون). ثلاثة مسطحات خشبية مع أسلاك ومسامير وبقايا معدنية تحت عنوان «مسرحية في ثلاثة فصول» (لي فريدريكسا). الباب الخلفي لشاحنة مصرية مزين بكتابات وأدعية (محمود حنفي)... أعمال تُفاجئ الزائر بمخيلة أصحابها وقدرة هذه المخيلات على اقتراح حيوات إضافية لمخلَّفات ومهملات لا يظن أنها يمكن أن تجد مكاناً لائقاً خارج مكبّات القمامة.
تلخّص تايلور ستيفنسون هدف هذا النوع من الفن بالقول: «متى استطاع الناس أن يتخطّوا الحاجز النفسي القائم بينهم وبين مهملاتهم، وأن يروا ما يمكن إعادة إنتاجه منها مثيراً للاهتمام، عندها فقط سيجدون أي شيء آخر جميلاً».

حتى 6 حزيران/ يونيو المقبل ــــ «الهنغار»، الغبيري: 01553604