الرباط عاصمة عربيّة وأفريقيّة لـ«موسيقى العالم»المهرجان الذي احتضنته العاصمة المغربيّة، تميّز بأقبال واسع وبرمجة عالميّة ترضي جميع الأذواق. جولة بين الفضاءات التي احتضنت ليلياً أكثر من مئة ألف مُشاهد. قريباً مواعيد موسيقيّة أخرى في فاس والصويرة وأغادير والدار البيضاء
الرباط ـــ بيار أبي صعب
تلك الليلة، تفرّق شمل المجموعة موقتاً. توزّعنا على أحياء الرباط المختلفة، لاهثين خلف البرنامج الحافل والمنوّع للدورة السابعة من «موازين» الذي بات يفتتح مهرجانات الصيف المغاربي والعربي كلّ عام... ولو في الربيع! لقد انتشر المواطنون في المدينة بعشرات الآلاف، توزّعوا على أماكن مختلفة من العاصمة المغربيّة. ترى كم يبلغ العدد الإجمالي للساهرين في هذه اللحظة؟ بين المئة والـ150 ألف مشاهد في أقل تقدير!
خديجة الصديقة المغربيّة المولجة (مع آخرين) بالعلاقات مع الإعلام، مولعة بالمغنّي الكولومبي الوسيم جوانيز. أنزلها السائق في حي بورقراق الذي كان، طوال أيّام المهرجان (16 ــــ 24 أيار/ مايو)، معقل الموسيقى الـ latino والجاز (Dee Dee Bridgewater) والاتنيّة ــــ المعاصرة (الصربي الكرواتي غوران بريغوفيك، مؤلف موسيقى أفلام أمير كوستوريكا)...
جاين، صحافيّة الـBBC الأوستراليّة، كانت الأكثر فضولاً لاكتشاف تعامل الشباب المغربي مع الموسيقى الإلكترونيّة، فقرّرت الذهاب إلى السهرة التي يحييها الـ DJ دايفد فانديتا ورفاقه. واجهنا زحمة سير فظيعة لإيصالها إلى حي الرياض: طرق كثيرة مقطوعة، والناس تزحف إلى أماكن العروض من كلّ حدب وصوب، وبعشرات الآلاف. هنا غنّت الماليّة رقيّة تاووري، وألهب بلال الأجساد في سهرة خاصة بالراي الجزائري... ووقف الجمهور مذهولاً أمام فرقة Gocco التي تضم 15 عازف إيقاع من اليابانأما مأمون الزميل السنغالي، فهو مهتمّ بصابر الرباعي. لنأخذه إذاً إلى «ستاد» (مدرج وملعب) حي النهضة الذي اشتعل في الليالي السابقة بحفلات اللبنانية نانسي عجرم والمصري عمرو دياب والسوريّة أصالة نصري والتونسيّة نجاة عطيّة، وسائر نجوم الغناء في زمن الـ pop الفضائي... كما تألقت فيه فرق مغربيّة أسطوريّة وملتزمة مثل «ناس الغيوان» و«جيل جيلالة».
العاشرة ليلاً، كنت آخر ركّاب السيارة، متحمّساً كالعادة للتجارب الشبابيّة في المغرب. تركني إدريس في حي القمرة، أحد أكثر الأحياء الشعبيّة اكتظاظاً في العاصمة المغربيّة، وتمنّى لي سهرة طيّبة. وقد كانت بالفعل سهرة طيّبة. لحظات استثنائيّة لا يمكن نسيانها. شعب كامل متمسّك بالبهجة والفرح، مصرّ على الاحتفال بالحياة. يبدو شعار «حب الحياة» الذي درج في لبنان، في السنتين الأخيرتين، هزيلاً ومترفاً ومتعالياً ومدّعياً... بالمقارنة مع ما يجري هنا، في الهواء الطلق. الناس يتجاوزون ظروفهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة الصعبة، ينتشون فطرياً بالكلمات والألحان. تستسلم الأجساد لوقع الطبول الأفريقيّة. مراهقون يصفقون ويرقصون ويلقون هتافاتهم. صبايا بحجاب ومن غير حجاب، غالباً تحت مراقبة عائليّة لا تعيق الاستمتاع باللحظة. ما لا يقلّ عن خمسين ألف مشاهد، من الفقراء غالباً، جاؤوا كما يذهب المغاربة إلى «المواسم». توزّعوا على المدارج، أو انتشروا حول المسرح وشاشتيه العملاقتين، للتواصل مع DARGA إحدى الفرق المغربيّة الصاعدة.
هذا المسرح في حي القمرة احتضن في السهرات الماضية أغنيات الـ«ريغي» مع زيغي مارلي، وتلوينات ناتاشا أطلس الترانس غلوبال ــــ استشراقيّة، والتراث المغاربي كما تعيد تقديمه فرقة ONB («أوركسترا باربيس الوطنيّة» المغاربيّة ــــ الفرنسيّة)، وأنغام الكاراييب وقد امتزجت بالفانك والروك مع الفرقة الفرنسيّة الشهيرة Kassav (المارتينيك). الليلة، في المكان نفسه، يلتقي الراب مع الشعبي، آلات النفخ مع آلات الإيقاع الحاضرة كالعادة بقوّة هنا. وآلة الغنبري الشهيرة التي تأخذنا مباشرة إلى عالم «الكناوى» وتقاليد «العبيد» الذين استحضرهم عرب أفريقيا الشماليّة من قلب القارة السمراء في العصور الغابرة... فرقة DARGA تشتغل على الـ fusion، ودمج النغمات والاتجاهات. وهي تلتقي في ذلك مع فرق مغربيّة عدة، تحتل الساحة منذ سنوات، أو شهور: «حاكمين» هي الأبرز ربّما، «هوبا هوبا سبيريت»، «أشكاين»، «مازاغان» الأمازيغيّة... وغيرها من الفرق التي ستحظى بالتفاتة ملَكيّة خاصة في اليوم التالي، مع اختتام المهرجان.
تلك الليلة المجنونة في الرباط، افترقت المجموعة الكوسموبوليتيّة إذاً، إنما بعد يوم حافل. عند السادسة والنصف مساء، قبيل المغيب، كان موعدنا مع فرقة آتية من بلاد المغول (HUUN HUUR TU) تغنّي السفر والحنين وعناصر الطبيعة، في ديكور خرافي حميم في قلعة Chellah الأثريّة، حيث اكتشف الجمهور المغربي أخيراً قبل يومين عود العراقي عمر منير بشير... ثم ركضنا عند الثامنة للاستماع إلى الموسيقى الغجريّة (فرقة «تاراف دي هايدوكس» ــــ رومانيا)، في مسرح «محمد الخامس» الذي تأرجح، خلال أيّام المهرجان، بين الفادو البرتغالي (كريستينا برانكو)، والشعبي الجزائري (بيونة)، والجاز (آل دي ميولا). نعم كل ذلك في يوم واحد، علماً بأن «موازين» امتد على تسعة أيّام، وتوزّعت عروضه المئة على تسعة فضاءات مختلفة... أحدها خصص للأغنية المغربيّة المكرّسة (مسرح مولاي حسّان) مع فاطمة تيهيهيت (الأمازيغي)، ورشيدة طلال (الحسّاني)، ومصطفى بورغوني (الشعبي)، وحياة إدريسي ونادية أيوب (العصري)، وورشيد قاسمي (الراي)...
لقد ربحت الرباط رهانها، وصارت عاصمة عربيّة وأفريقيّة لـ«موسيقى العالم». وتحوّل مهرجانها الذي بدأ صغيراً إلى موعد عالمي يتحدّى قرطاج وبعلبك وبيت الدين... لجهة البرمجة وحجم الإقبال المحلّي. في البدء كان «مهرجان الرباط» قبل عقد من الزمن. ثم حلّ مكانه «موازين ــــ إيقاعات العالم» الذي يرأسه منير المجيدي (البرمجة الفنيّة تحمل توقيع: عزيز داكي)، لينال دعماً رسمياً رفيع المستوى. صحيح أن بعض النقّاد أعاب على التظاهرة خلطها بين كل تلك المدارس والاتجاهات، وتخلّيها عن سياسة البرمجة المتماسكة التي كان أرساها شريف الخزندار في السنوات الماضية. لكن التحوّل يبدو ناجحاً، والهدف مقنعاً: تقديم مختلف الأشكال والاتجاهات والأسماء، المغاربيّة والأفريقيّة، العربيّة والعالميّة، بشكل يخلق حالة من التعددية ويراعي مختلف الأذواق. إقبال الجمهور الكثيف جاء ليؤكّد صوابيّة هذا الاختيار.
مساء اليوم التالي (السبت الماضي)، عدنا فالتقينا جميعاً في مربّع الـ VIP لستاد «حي النهضة»، لنشارك الجميع ختام مهرجان «موازين» 2008. ثمانون ألف مشاهد جاؤوا للقاء ويتني هيوستن، مغنيّة الـ soul والـ Groove والـ R’n’B. موعد آخر يصعب نسيانه مع الديفا الأميركيّة السمراء التي تأتي في المرتبة الرابعة عالمياً على قائمة مبيع الأسطوانات، بعد مادونا وسيلين ديون وماريا كاري (180 مليون أسطوانة حتّى اليوم). صاحبة الصوت السلس والقوي التي تخلصت أخيراً من المخدرات، وخرجت من كوابيس زواجها مع بوبي براون أمير النيو دجاك سوينغ، ونزيل السجون الفيدراليّة، خصّت المغرب بإطلالة فريدة. وضعت حجاباً أبيض لتغني I love the Lord على طريقة الغوسبل، وأسرفت ربّما في اللعب على الخصوصيات الدينيّة والإتنيّة، ودغدغة المشاعر الوطنيّة للناس (حتى ارتداء القفطان المغربي في نهاية العرض). لكن ما همّ! ما همّ إن لم تأت صاحبة I will always love you بأي جديد على إنجازاتها المعروفة... لقد عشنا حالة انصهار خاصة مع جمهور متنوّع يعرف أغنياتها مثلما يعرف أغنيات عمرو دياب، شعب كامل منفتح على العالم في زمن التشنج والانغلاق، ينظر إلى الأمام بكثير من الفرح والتفاؤل بالمستقبل.