كلا، ليس هناك أي حتميّة تاريخيّة تجعل من بلاد الرافدين مسرحاً دموياً وأرضاً للاقتتال الأهلي... وخلاص العراق لا يكون على يد حكّام من سلالة الحجّاج بن يوسف. أما جذور الفتنة، برأي رشيد الخيّون، فابحث عنها لدى تجار الدين والسياسة
حسين السكاف
«العراق ليس هو البلد الناشز من بين بقية بلدان المنطقة في تعدده وفي تاريخية اضطراباته، لذا ليس صحيحاً تمييز العراق بتاريخ من العنف الدموي، أو العصيان، الذي لا يخفته، ويكبحه إلا شخصيات من صنف ولاة أشداء قساة، في العصر الأموي مثلاً، من حجم: الحجاج بن يوسف الثقفي». بهذه العبارات، يفتتح رشيد الخيّون كتابه «المجتمع العراقي... تراث التسامح والتكاره» (معهد الدراسات الاستراتيجية)، إذ يقوم الباحث العراقي بمهمة المثقف في الوقوف أمام ماكينة التدمير التي يتعرّض لها بلده. هذه المهمة الشاقّة جاءت في الكتاب كحقيقة موثّقة بالشواهد التاريخية. إذ ارتكز الكاتب على الجذور التاريخية للتعايش الديني بين العراقيين، ليصل مرحلة الاحتلال الأميركي.
وهذه المرحلة تقع في صلب موضوع الكتاب وهدفه. إذ يبيّن المؤلف أنّ السياسة، والسياسي خاصة هو مَن يؤجّج الاضطرابات. فالاضطرابات التي ظهرت بين الطوائف والأديان في العراق ــــ كما في بقاع أخرى ــــ كانت دائماً تظهر في وضع سياسي مضطرب. فعندما يشعر صاحب القرار بأنّه في خطر، يشعل تلك الحوادث ليدرأ عن عرشه المخاطر. هذا إضافة إلى الفتاوى الدينية التي تدعو إلى القتل وإبادة طائفة أو مجموعة. هذه الفتاوى هي الأخرى لا تخرج إلا في مثل تلك الظروف. ويسرد الكاتب عدداً من تلك الفتاوى قديماً وحديثاً، مسلّطاً الضوء على الفتوى التي أطلقها ــــ بعد دخول قوات الاحتلال العراق عام 2003 ــــ معمَّم ينتمي إلى التيار الصدري، هو ميثم العقيلي مسؤول المؤسسة الإعلامية لمكتب الصدر في البصرة. كانت تلك الفتوى تهدّد الصابئة المندائية بالقتل، إذا لم يثوبوا إلى رشدهم ويدخلوا الإسلام، علماً بأنّه حين نتمحّص الظروف السياسية التي خرجت بها فتوى العقيلي، نجد أنّها صدرت في زمن الحرب، أي بعد دخول قوات الاحتلال وانتشار الفوضى والسلاح والسرقة وارتباك الأوضاع السياسية. وهذه الظروف تتشابه تماماً مع الأوضاع المضطربة التي شهد فيها الناس فتاوى التكاره والتحارب، ومحاربة أهل الذمّة التي أطلقها ابن تيمية (توفي 1327) وابن الأخوة (توفي 1329م) اللذان حرّما مساكنة اليهود والنصارى، وكفّرا أهل الكتاب حتى وصلت فتوى ابن الأخوة إلى المرأة. وتلك الفتاوى خرجت في عصر الانهيار، وفي فترة مضطربة سياسياً حيث كانت المنطقة ترزح تحت وطأة الاحتلال المغولي.
ويرى رشيد الخيّون أنّ العداء صار يُبث عبر القنوات الفضائية. فالكثير من الطوائف التي تمتلك المال أسّست قنوات فضائية لتكون مساجد ومنابر شتم وعداء، فصار عدد المتأثرين بهذه التحريضات أضعافاً. في المقابل، يعتمد الكثير من القنوات الفضائية منهجاً سياسياً تابعاً لحزب سياسي أو جماعة، لا يقلّ تأثيرها عن قنوات الدين. وهنا تكمن خطورة الفتوى أو الموقف الديني أو السياسي الذي تطلقه تلك القنوات، لتصل خلال ثوانٍ معدودة مسامع الملايين من البسطاء. يشدّد الكاتب على أنّ الفتوى التي يأخذها البسطاء من الناس فرماناً، قد تستمرّ زمناً طويلاً، بل تتوارثها الأجيال المتعاقبة في الغالب.
وقد حاول الكاتب الاستعانة بآيات قرآنية تثبت بالنص، أنّ الاختلاف أمر رباني، أي أنّ الله هو من أقرّ الاختلاف بين البشر (لكلّ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة ولكن ليبلونكم في ما أتاكم» ــــ سورة المائدة، الآية 48). لكن المهمّ الذي جاء به الكتاب، أنّ الإنسان البسيط ــــ بغض النظر عن مذهبه أو دينه ــــ لا يحمل البغضاء في طبيعته نحو من اختلف معهم. إلا إذا حرّك أصحاب القرار السياسي بوادر التكاره بين الطرفين. كما فعل صانع «الحرب العراقية الإيرانية» الذي دفع بشعرائه إلى إحياء الحرب ضد الدين المجوسي. مع أنّ المتحاربين جميعاً من المسلمين. يقول الخيّون مسلّطاً الضوء على فسحة التعايش والتسامح بين الناس حين يختفي دور السياسي: «لم يشهد التاريخ العراقي مواجهات شاملة جامعة بين الأديان والمذاهب والقوميات، فلم نعثر على حرب عربية كردية، أو كردية تركمانية شاملة، أو مواجهات شيعية سُنيّة شاملة، خارج سلطة أمير أو وال أو آغا ...».
وعلى رغم أنّ العراق يمثّل أرضية خصبة لمآرب السياسة ورجال الدين ممن يبتغون التناحر الديني والطائفي وحتى القومي، إلا أنّ معظم المذاهب الدينية والطوائف التي عرفتها الدنيا، عاشت على أرضه. ويذكر الكاتب أنّ خمسة أديان تعايشت على أرض العراق منذ القدم هي: الصابئة المندائية، واليزيدية، واليهودية والمسيحية بمختلف مذاهبها، والإسلام بمختلف مذاهبه، إضافة إلى ما هناك من الكاكائية والبهائية وعدد قليل من الزرادشتية. «ويبقى وجود هذه الجماعات حقيقة تاريخية، حيث لغات العراق السريانية والآرامية القديمة التي امتدت على طوال شواطئ دجلة والفرات من الشمال والغرب إلى الجنوب والشرق، ما زالت تمثّل العراق نفسه الذي يعيش حالياً فيه: العرب والكرد والتركمان والكلدان والآشوريون والآراميون. ويقدر عددهم حالياً بـ 26 مليون نسمة».
يبدو رشيد الخيّون في كتابه، محارباً نبيلاً حمل لواء التسامح والتعايش بين الأديان والمذاهب. ومن خلال الكثير من الوقائع والقصص، يكشف لنا تراثاً لا يستهان به من التعايش والتسامح بين أفراد المجتمع العراقي، خالصاً إلى أنّه «لولا تلك الفسحة من المعايشة، ما احتفظ أهل العراق بهذا العدد من الأديان والمذاهب والقوميات، بعضها إلى جانب بعض».