حسين بن حمزة في مجموعته الجديدة «حياة معطَّلة» (دار النهضة)، يواصل عبده وازن الحفر في الموضع الذي استأنس إليه في أعماله الشعرية الأخيرة. الحفر هنا ليس تكراراً آلياً، ولا يجري في اتجاه واحد. والموضع ليس نقطة أو هدفاً وحيداً، بل مساحة يمكن توسيعها وتجويفها، وإدخال مذاقات وروائح مجرّبة أو مستجدّة إليها.
إذا تلقّف القارئ هذه الفكرة كمعطى أولي، فسيسهل عليه أن يرى في الموضع الذي يحفر فيه الشاعر عالماً شعرياً كاملاً، وفضاءً يتسع لممارسات لغوية عدّة.
تتجنَّب قصيدة عبده وازن الواقع بمعناه الفوتوغرافي المباشر. ولذلك تبدو هذه القصيدة كأنها نتاج المعجم والمخيّلة، لا نتاج حياة فعلية ملموسة. مردُّ ذلك إلى أن الشاعر يفضِّل أن يكتب حيثيات الحياة بلغة أكثر تماسكاً ومتانةً من لغة الحياة اليومية نفسها. الحياة التي تحدث في الواقع لا تحدث كما هي في القصائد. ثمة سعي مستمر للنفاذ إلى جوهر الأشياء العادية، ورغبة في إخضاع أكثر الحوادث والأفكار نثرية واعتيادية وروتينية إلى نوع من التفلسف الوجودي والصوفي. ثمة حياة في هذا الشعر، لكنها ليست حياة منقولة حرفياً كما هي من الواقع اليومي، بل مكتوبة ومنقّحة أكثر من مرة.
ولكن لماذا يحدث ذلك؟ الأرجح أن ثمة رغبة لدى الشاعر في تمتين ما يحدث في الواقع وتحويله إلى مادة أكثر صلابة وأكثر قابلية للحياة. هناك نوع من «الرؤيا» وراء هذا الضرب من الممارسات الشعرية. دعكَ من التصوف والنظرة الشمولية للوجود، فهذا موجود بسخاء في هذا الشعر. ثمة رغبة في رفع مشاغل الحياة الاعتيادية والروتينية إلى مستوى السؤال الفلسفي. ولذلك يلاحظ القارئ أن العالم الذي يراه في الشارع أو المقهى أو الوظيفة... نادراً ما يحضر في القصيدة. وإذا حضر، فذلك يحدث بشروط هذه الكتابة ومتطلباتها الخاصة. على الواقع أن يتخلص من واقعيته المفرطة قبل أن يُساق إلى القصيدة.
كأن صاحب «أبواب النوم» (1996) يأخذ على عاتقه أن يروي حياة كاملة من دون حيثياتها ووقائعها اليومية. إنه اختبار وعر وشائك، أن تقول معاني الأشياء ودلالاتها، وحتى إيماءاتها الغامضة والمتناهية الصغر، من دون أن تصرّح عن الأشياء ذاتها. بهذا المعنى، تلعب القصيدة في الفناء الخلفي للحياة، وعلى حوافها غير المرئية. من هناك يمكن رؤية الأشياء بطريقة مختلفة. وهذا يعني أن أي فكرة أو حدث واقعي، سيؤخذ على محمل التفلسف الشعري، ويُخضع لنبرة لا تتوقف عن مزج الواقعي بالماورائي، وتحويل ما هو عارض إلى مادة جوهرية. حيث «العين لا تغفو مهما أغمضتها/ يقظتها تبدأ ما وراء الجفن/ في بلاد الأرق التي لم يعد منها أحد»، وحيث «أزيز المفتاح/ في القفل/ لا يعني أن الباب يُفتح/ الباب الأول/ يليه باب ثانٍ/ وثالث».
في هذا النوع من الكتابة، تتضاعف المعاني التي يثيرها أي حدث، أو أي تفصيل، مهما كان عابراً. أغلب قصائد المجموعة تسلك هذا المنحى. إنها تعمل على توفير أرضية فلسفية وكونية للواقع اليومي، إلى درجة يمكن فيها الادعاء بأن عبده وازن يعمل على خلق سياقات أكثر ديمومة وخلوداً، لما يُعتبر عادياً ومبتذلاً وغير جدير بالانتباه... وأن قصيدته تواجه الواقع الزائل بواقع متخيل، مع افتراض أن الثاني يدوم أكثر.
لكن الواقع لا يخضع لعملية محوٍ كاملة أثناء نقله إلى القصيدة. بإمكان القارئ أن يرى أطلالاً وبقايا، وأحياناً صورة كاملة، من النسخ الواقعية والأصلية لأغلب القصائد. هذا يعني أن الشاعر يظل على صلة بما يعيشه ويراه ويختبره. التفلسف الشعري ومعاينة الحياة من وجهة نظر ميتافيزيقية لا يورّطانه في التهويم والتداعي اللغوي السلبي. إنه يشارك الشعراء الآخرين النظرة نفسها للحياة. الفرق أنه يفضِّل أن يرى الطبقات المتعددة لها. بالنسبة إليه، وبحسب أسلوبيته ونبرته، الشعر يُصنع في الطيَّات والغضون غير المرئية للحياة. لنقرأ: «المعنى لا تفقده التفاحة/ وإن رقدت طويلاً/ على الطاولة/ الصمت الذي يخامرها/ هو رجع الزمن/ الهاجع في قلبها/ انظرْ إليها/ في هدوئها المالح/ لا تحتاج إلى يدٍ/ تحرِّكها/ ولا إلى شفتين/ تتذوقان ضوءها المنكسر/ لقد نضجت/ من كثرة ما انتظرت/ وحيدةً/ في لوحةٍ/ لم يكملها رسام».
يتمهل صاحب «حديقة الحواس» (1993) في مشاهدته لما يحدث. يُبطئ إيقاع الواقع. بهذه الطريقة، يتسنى له استخراج الاستعارات والصور المدفونة في مجريات الواقع العادي. وغالباً بما يكفي منها.