هو الناصري الذي ينتقد الناصرية، والوطني الذي لا يخجل من إظهار عيوب وطنه. تلميذُ شاهين زار بيروت أخيراً، استعداداً لتصوير فيلم عن عدوان تموز، «الانتصار الوحيد الذي عشتُه في زمن الهزائم والانكسارات»حوراء حومانيبعد «حين ميسرة» و»هي فوضى»، أنهى المخرج المصري خالد يوسف أخيراً تصوير فيلم «الخُدعة» مع خالد صالح وهاني سلامة وسمية الخشاب وغادة عبد الرازق والممثل العراقي بهجت جبوري. يغوص الفيلم في عالم الليل والكازينو، ويضعه في معادلة موازية للحياة عامةً. فالكازينو تحكمه نزعات الخير والشر، وقاعدة البقاء للأقوى، وتسيطر عليه شهوة الجنس والمال والشهرة. ويطرح «الخدعة» إشكالية فلسفية: «من يسيّر الأمور، نزعات الخير أم هواجس الشر؟» وبالتالي: «من يدير الكون: الله أم الشيطان؟».
وتلميذُ يوسف شاهين النجيب، يبدي رضى كبيراً عن التجاوب الجماهيري الواسع مع فيلم «هي فوضى» الذي يناقش قضية القهر «بعيداً من العوامل التجارية التي تغرق فيها الإنتاجات السينمائية عادة». ويصف الفيلم الذي عرض في مهرجانات عالمية عدة (فينيسيا وتورنتو ولندن، وقريباً في مونتريال)، بالمختلف تماماً. ذلك أن «دوري في التجارب السابقة مع يوسف شاهين كان يقتصر، مهما عظُم، على المساعدة في الإخراج ليس إلا... لكنني هذه المرة كنت شريكاً في الإخراج، وواضعَ رؤية. وقد أعطاني التزاوج الفكري مع أستاذي شاهين بُعداً وعمقاً مختلفاً». من هنا، ليس مستغرباً أن يثني يوسف على نتاجات شاهين، «أستاذ السينما العربية الذي لا يطاوله قيمة أي سينمائي عربي آخر بنظري».
ويرفض صاحب «ويجا» و«خيانة مشروعة» الردّ على الانتقادات التي طاولت الفيلم من ناحية المبالغات والإطالات في بعض المشاهد، موضحاً أنّ دوره ينتهي عند وصول الشريط إلى دور العرض. و«أنا لستُ طرفاً في معادلة الحركة النقدية التي أراها رافداً من روافد الإبداع. وأربابها يملكون الحق في قول ما يشاؤون».
وبعد «هي فوضى» وقبل «الخدعة»، قدّم خالد يوسف للجمهور فيلم «حين ميسرة» الذي روى تفاصيل مقلقة عن حياة الناس في عشوائيات القاهرة، فحقّق نجاحاً في دور العرض، وأثار جدلاً واسعاً لم ينته حتى اليوم. يقول يوسف إنّ «حين ميسرة» حقّق إيرادات أكبر من «هي فوضى»، وأثار حراكاً ثقافياً على قضية هي من أهم القضايا العربية: «العشوائية، ليس في السكن فحسب، بل في نمط العيش الذي يحكم سلوكنا اليومي». لكن هذه الحال التي ترزح تحت نيرها المنطقة، لم تأتِ من فراغ، «في عالم تنفرد الولايات المتحدة بقيادته، لا بدّ من أن يصير كل شيء عشوائياً، حتى النجاح والفشل والموت والتفكير». والمهم في نظر خالد يوسف هو أن نتوقف ونسأل: «كيف تكوّنت هذه العشوائيات وكيف تمكن مواجهتها؟».
وهل وصلت الرسالة؟ «وصلت بمجرّد أن ألقت بظلالها على كل الأصعدة، فالنظام السياسي نفسه بدا مُحرجاً من كشف كل هذه العورات أمام عينه. كما أن المحللين النفسيين والاجتماعيين بدأوا مناقشة القضية عنوةً». وانطلاقاً من هذه التجربة، يؤكد أنه يجد نفسه في هذا النمط من الأفلام دون غيرها، لما تحويه من بعد اجتماعي وإنساني.
وفي مناسبة الحديث عن رسائل «حين ميسرة»، يرفض خالد يوسف تحديد وظيفة الفن بكونه يجد حلولاً، ذلك أنّ «الأسئلة وحدها ترى، فالأجوبة عمياء... وإذا طرحت حلاً، أكون صادرتُ حرية الجمهور في التفكير، وتعدّيتُ على عمل علماء الاجتماع والنفس».
إلا أن ذلك لا يعني برأيه اقتصار الشريط السينمائي على الإمتاع البصري والتسلية فقط. بل يتعداه إلى طرح «إشكاليات تُسهم في بناء المستقبل. لذا، ترينني أطرق باب المسكوت عنه لفتح الطريق لمعالجته. وأنا لا أخجل من أيّ قضية نواجهها في الواقع. هناك من يتحسس من لفظة «جنس» أو «شذوذ»، لكنّنا لا يمكن حل تناقضنا من غير وضعها «تحت المهجر». كما لا يمكن رؤية تشوهات جسدنا العربي من دون أن نقف أمام المرآة، ونواجه أنفسنا».
ثم يتابع شارحاً، بثقة لافتة: «أنا أرمي حجراً في البحيرة الراكدة فتموج... بمجرد أن يمهد الفيلم لحالة حوار حضاري بين المواطنين، فهو طريق نحو الإصلاح الذي يقع ضمن منظومة متكاملة من النظام السياسي إلى وعي الجماهير. لكن هذا الإصلاح لا يتحقق من جهة واحدة، وإلا سيكون مثل نظام عبد الناصر». كيف؟ «يكون نظاماً ذا توجهات صائبة ووطنية، لكنه لا يصل إلى نتيجة، ولا يدفع بالشعب إلى تبنّي هذه التوجهات، وعدّها خياره الحقيقي... مع أني ناصري، أقول هذا علانية».
وكما يرفض إيجاد الحلول، ينفي عنه تهمة تشويه سمعة مصر، «هذا كلام سخيف، لأن في بلادي حضارة أكبر من أن يقدر أحدهم على تشويه سمعتها. واليوم، يمكن لأي كان أن يشاهد، بكبسة زر على الإنترنت، مشاهد للعشوائيات أفظع من تلك التي صوّرتُها». في المقابل، يؤمن بأنّ الفن لا يثمر إذا وضعت له القواعد والقوانين، «كما لا يمكن تطبيق مقاييس الالتزام والانحلال عليه”.
وماذا عن المشهد السينمائي العربي؟ «هو يتسق تماماً مع حالة التردي التي تعيشها الأمة العربية، لأن بين المناخ العام والفن حالة جدلية تقوم على التأثر والتأثير. كما أنّ النهضة مشروع متكامل والنصر مشروع متكامل والهزيمة مشروع متكامل، ونحن نعيش مشروع هزيمة لا يمكن إنكاره، باستثناء محطات قليلة جداً في تاريخنا المعاصر، كانتصار حزب الله في 2000 و2006».
ويؤمن يوسف بقدرات الجيل الصاعد وطاقاته من الممثلين، مؤكداً أنّ الإبداع ليس حكراً على جيل واحد، «هناك 200 أم كلثوم وعبد الوهاب يعيشون في أزقة مصر والوطن العربي، لكن يفتقرون إلى المناخ الصحي القادر على فرزهم».
وبالحديث عن الدراما العربية، يقول: «القواعد التي تسير عليها هذه الدراما لا تعجبني، لذا لا أشاهدها. في السينما، تعلمتُ فنّ تكثيف اللحظة. أما في التلفزيون، فيجيدون فنّ تطويل اللحظة وهذا يضجرني». كما يستخفُّ بمصطلح «نزوح درامي» عند الحديث عن انتقال الممثلين بين مصر وسوريا، على اعتبار أنّ «الفن العربي يتكامل طول الوقت. لكن الحديث عن هذه التفرقة اليوم تحديداً، سببه مشروع الهزيمة العام الذي نعيشه في يومياتنا العربية».


عن أبطال تمّوز وسقوط الأندلس
«عندي أحلام محدّدة إلى جانب أعمالي العادية، فأنا مشغول اليوم بعمل سينمائي عن النصر الوحيد الذي عشتُه في حياتي، وهو نصر تموز 2006»... هذا ما أتى أخيراً بخالد يوسف إلى بيروت مع الممثل هاني سلامة. يوسف الذي شارك في حلقة من برنامج «سجال» عن دور المثقف العربي، سيعبّر سينمائياً عن هذا النصر على طريقته. يقول إنهم ما زالوا في مرحلة البحث عن مواقع التصوير وفريق الممثلين، ويفصح أنّ العمل إنساني في المقام الأول: «سأركّزُ على قصص الأشخاص الذين صنعوا هذا الانتصار، بعيداً من القصص العسكرية المبهرة. إذ لا أهدف إلى إذهال الجمهور بعرض عن معارك عسكرية وتقنيات قتالية، أجدُها سهلة في الدراما... ما يعنيني هو إظهار كيف تحوّلت شخصيات عادية من لحم ودم إلى أسطورة، يجب أن يتماهى معها جيل الشباب العربي».
ويشرح أن العرب يظنون أن هؤلاء الأبطال في جنوب لبنان، قد أتوا من المريخ ولا يمكن الاقتراب منهم. لذا يأتي الفيلم في سياق التأكيد أن الفرق الوحيد هو أن شباب المقاومة يملكون اليقين والإرادة. وقد اتّخذوا قرار الانتصار والشهادة في سبيل هذا الانتصار». من هنا، يريد يوسف أن يحكي حياة هؤلاء الأبطال اليومية لتقريب صورتهم من واقع الشباب العربي، «ولأقول للعرب إنّ في إمكانكم أن تصيروا مقاومين، إذا عزمتم على ذلك».
ومن بين أحلام خالد يوسف، عمل آخر يرصد سقوط الأندلس، «وخصوصاً أننا نختبر تراجيديا السقوط. فما أحوجنا أن نتعلم من درس سقوط الأندلس».