ياسين عدنانيستقبل الزميل ياسين عدنان هذا المساء في برنامجه «مشارف» ــ على القناة المغربيّة الأولى ــ الكاتب والرمز الثقافي الجزائري المعروف الطاهر وطّار. وقد خص يس
«ثقافة وناس» بنص يستعيد فيه محطات من علاقته بوطّار وبالثقافة الجزائريّة... بواقعها الخصب والصعب في آن معاً
لم يكن الموت قريباً منّي مثلما كان أيام ترددي على الجزائر في بداية التسعينيات. كان حظرُ التجول يخنق الليل الجزائري منذ ساعة الغروب الأولى. أما العاصمة البيضاء الجميلة فشحُبت بعدما صارت تعيش يومياً على إيقاع التفجيرات. وكنتُ، كلّما اشتدّت وتيرة الاعتقالات في جامعة «القاضي عياض» في مراكش، أهرب إلى الجزائر التي كنتُ مشدوداً إليها بأكثر من حبل: أصدقاء شعراء من مختلف الأجيال، حبيبة في كامل مشمشها من أهم الأصوات الشعرية الجديدة لجزائر ما بعد أكتوبر 88، ودنانير تضمن الكفاف وتؤمن العفاف تصرفها لي الجرائد التي كنت أراسلها من المغرب («السلام» ثم «الشروق» في ما بعد). وهكذا صارت الجزائر لي ملاذا غير آمن أتردد عليه على الأقل مرتين في السنة.
خلال ظهيرة حارة من سبتمبر 1992، وجرح عملية تفجير مطار «الهواري بومدين» لا يزال طرياً، كنت في مقر جمعية «الجاحظية» الثقافية التي يرأسها الطاهر وطار. كنا تلك الأيام، الشاعر الراحل يوسف سبتي وأنا، نلتقي يومياً في الجاحظية في فترة الزوال، نشرب شاياً في مقصفها وننتظر أن يُنهي وطار مشاغله التي لا تنتهي لنخرج للغذاء (يسميه الجزائريون فطوراً) في أحد المطاعم المجاورة لشارع رضا حوحو. لكن ذلك اليوم بالذات، لم يأت يوسف. وبقيتُ رفقة صاحب (الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي) وسكرتيرته ندردش قليلاً في المكتب. في تلك اللحظة رنَّ الهاتف. بدا وطار منهاراً وهو يُفيدُنا أن المجهول الذي خابره للتو أبلغه أن مقر الجاحظية سينفجر بعد ثلاث دقائق. كان رأيي أن نُخلي المكان فوراً لربع ساعة على الأقل (وهو ما فعلته أنا والسكرتيرة التي ركضت قبلي إلى الخارج لا تلوي على شيء). لكن الطاهر وطار تخشَّب فوق مكتبه مُصراً على البقاء في تحد غريب. طبعاً سيتضح أن البلاغ كاذب. لكنني اكتشفتُ في الوقت ذاته أن الجاحظية صارت للطاهر وطار جسداً ثانياً ومقاماً زكياً آخر لا يمكن لروحه أن تغادره إلا في اتجاه السماء.
بعد أشهر قليلة تم اغتيال يوسف سبتي الذي وُجد مذبوحاً في بيته. وغادرت السكرتيرة الجاحظية إلى وظيفة أفضل. لكن وطار خلدهما معاً في روايته الجميلة «الشمعة والدهاليز». فشاعر الرواية ليس سوى صديقنا يوسف، ومعشوقته المُحتجبة فيها الكثير من ملامح سكرتيرة الجاحظية تلك الأيام. أما وطار فلا يزال مرابطاً في جمعيته يناضل من أجل أفق جديد للثقافة في الجزائر.
قبل أيام في ندوة وطار التي أدارها عبد الحميد عقار خلال فعاليات معرض الكتاب في البيضاء، ذكَّرتُ صاحب «اللاز» بالحكاية القديمة وسألته عن سر شجاعته. فأجابني قائلاً: «لا شجاعة هناك يا صديقي، لكنها حكمة شيخ عركته التجارب. كل الذين ماتوا في الجزائر أمامي من الأدباء وغير الأدباء، لم يُحطهم أحد علماً بموتهم الوشيك. لذا، توقعت منذ البداية أن البلاغ كاذب. إنما، كيف يمكن لشيخ مثلي أن يقنع شباباً في مقتبل العمر بمجاورة الموت ولو لثلاث دقائق؟ لهذا تركتكما تغادران». هل هي الحكمة فقط ما خانني تلك الظهيرة؟ لست أدري. لكن المؤكد أنني ما زلت حتى اليوم أشم رائحة ذلك الموت الجزائري القديم. رحم الله يوسف سبتي.
«مشارف» 22:30 بتوقيت غرينتش على «المغربيّة الأولى»