بيار أبي صعبمحمد الماغوط ليس كاتباً مسرحيّاً، لكن المسرح يحبّه. كان يصنع مسرحاً من كلّ شيء. من الكلمات أوّلاً وأخيراً. المرارة الضاحكة التي تنضح من قصائده، حملها معه إلى المقالة والمسرحيّة. كان صاحب «العصفور الأحدب» في حاجة ماسّة إلى تفريغ نقمته على العالم، وتعرية معاصريه، ونكء جراحهم، ووضع الوطن في قمامة كما فعل في «المارسييز العربي»، تلك المحطة المضيئة في سبعينيات بيروت التي تغيب عند ذكر مسرح محمد الماغوط.
«مسرح» الماغوط؟ كل شيء عند الماغوط كان قابلاً للمسرحة. من الشعر طبعاً، إلى المقالة الصحافيّة والتعليق السياسي المباشر الذي سرعان ما ينعطف تحت قلمه ليأحذ منحىً آخر. كان قد وقّع عقداً خفيّاً مع لغة الحياة، وصنع أدباً من الشعارات السياسية، والأوجاع القوميّة، والتصريحات الصحافيّة. إنّه مسرح ديكوره مفردات أشبه بثمار وحشيّة، يرصفها الشاعر ويدمجها في كيمياء خاصة. هكذا مارس إغراءً مدهشاً على المخرجين. المسرحي المغربي عبد الواحد عوزري، جمع ـ أواسط الثمانينيات ـ مقالات صحافيّة لصاحب «المهرّج» وقولبها في احتفال مشهدي، «ماغوطي» بامتياز. فكانت «حكايات بلا حدود» من بطولة ثريا جبران (وزيرة الثقافة الحالية في المغرب). أما نصوص «سأخون وطني» (دار الريّس)، فقدّمت في أكثر من قراءة مشهديّة. اقتبس عنها وائل رمضان مسرحيّة «لشو الحكي» في دمشق قبل سنوات، ومثله فعل طاهر نجيب في الناصرة «نعم سأخون وطني»، ثم صارت في فلسطين أيضاً «هبوط اضطراري» مع عماد جبارين... ووصلت تلك النصوص إلى يافا، حيث تجسّدت مع «مسرح السرايا العربي» في «سيّداتي، سادتي» من إخراج أديب جهشان. وهذه الأيام بالذات تعرض، في فلسطين الـ٤٨، مسرحيّة «وجبة هجاء مع محمد الماغوط». العمل من إخراج مسعود حمدان (مسرح «النقاب» في عسيفا) الذي قام بعمليّة توليف لكتابات نثريّة وشعريّة مختلفة للشاعر الراحل. حول عامود فقري مستوحى من سيرة الماغوط الذاتيّة. تحيّة غير مباشرة للماغوط الذي اعتمد غالباً على المونتاج والكولاج لخلق مواجهات بين الحاضر (المنحطّ والمأزوم)، وشخصيات الأدب والتاريخ، من عطيل أو هارون الرشيد إلى صقر قريش.
نتوقف كثيراً عند مسرحيّاته الأدبيّة، «العصفور الأحدب» (1960) و«المهرج» (1960) التي قدّمتها لينا أبيض، العام الماضي، في بيروت. و«خارج السرب» (1999) التي أخرجها جهاد سعد في دمشق، وننسى النصوص التي كتبها ـ بالعاميّة ـ لدريد لحّام، ولم ينشر حتى اليوم: «ضيعة تشرين» (1973)، «غربة» (1976)، «كاسك يا وطن» (1979)... علماً بأنّها تحتوي على كل عالم الماغوط بغنائيّته وسخريته ونقمته.
مسرح الماغوط؟ مسرح فانتازيا وأفكار وشخصيات مسطّحة، تحمل شحنة رمزيّة بعيداً عن أي همّ درامي. كوميديا سوداء متواصلة، أسندَ بطولتها إلى الكلمات. مرافعات عابثة تنضح سخرية وغضباً . ألم يعترف يوماً بأن مسرحه ليس فيه «سوى الصراخ والفوضى»؟ ربّما علينا أن نضيف: الصراخ الخافت!