يرصد الناقد المغربي المعروف تطوّر الرواية العربية وتأثّرها بالاتجاهات العالمية، من الواقعيّة الكلاسيكيّة إلى البصمة الوجودية وصولاً إلى هيمنة الأنا. ويستبعد وجود نص روائي عربي بصبغة محلية خالصة، في ظل شكل كوني هو محصلة التناص الذي يحكم الإنتاج الأدبي
خليل صويلح
يناوش محمد برادة شؤون الرواية العربية وشجونها من مطارح عدة، بهدف الإحاطة بالتخييل السردي العربي الراهن بوصفه ذاكرة المستقبل. ويرى الناقد المغربي في كتابه «الرواية ذاكرة مفتوحة» (دار آفاق ـ القاهرة) أنّ التخييل والذاكرة يتواشجان بانفتاحهما على أزمنة وفضاءات ومعارف متباينة في مساءلة المستقبل، سواء لجهة تفاعل النص مع ذاكرة المتلقي، أو لجهة محاورة المبدع لنصوص وأعمال مؤثرة. وذلك لإبراز دلالات مهمة ضمن سياق زمني مختلف بإعادة صوغها على نحو آخر، وإن كانت تنتمي إلى السلالة التخييلية
ذاتها.
هكذا، تنفتح ذاكرة النصوص بعضها على بعضها الآخر، وتتحاور في ما بينها، من «ألف ليلة وليلة»، و«دون كيخوته»... إلى أعمال دستويفسكي وكافكا. هذا التواشج والاشتباك بين النصوص سيقود بالضرورة إلى نصٍّ لاحق يسهم على نحو فعّال في نسج المتخيل الاجتماعي والهوية الجمعية، بما تراكمه من محكيات ومسرودات وقيم. يرى برادة أن التخييل «يتخطى الحدود والتصنيفات المدرسية بين الموصوف المرئي واللامرئي، وبين تعاقب الأزمنة وتقسيماتها». ولعلّ في مثل هذا التصوّر للتخييل الرافد للنص الروائي ما يشرّع الأبواب أمام قراءات مفتوحة ومتداخلة بصرف النظر عن الثقافة واللغة.
لكن ما هو شكل العلاقة بين الروائي والناقد؟ وهل تتسم بالتكامل والتواطؤ أم أنّها علاقة توتّر وجفاء؟ يجيب صاحب «لعبة النسيان»: «لا يبدو أنّ مسألة المعرفة التي يمكن أن تنتجها الرواية والنقد المتصل بها قد حُسمتْ، لأنّ تطور العلم والمعرفة الملموسة لا يفتأ يضع الأدب عامة، والتخييل خاصة، في قفص الاتهام قياساً إلى الخطابات التي تنتج المعرفة. ويفرز في هذا السياق أربع علائق بين الروائي والناقد تتمثل أولاً بالاستكشاف والتحليل. استكشاف استراتيجية الروائي في ما يخص الشخصيات والفضاء والسرد واللغة... إضافة إلى التحليل التأويلي عن طريق تمثّل الخطاب الروائي وإحالاته المرجعية، الأمر الذي يحول دون الاختزال وإصدار الأحكام المسبّقة، لأنها تجعل النص النقدي مرتبطاً بتصور ومنطق وتفاعل معلل يحمي النقد من أن يكون مجرد موازين معيارية جاهزة أو مجرد انطباعات، بل إنها تفتح الطريق أمام النقد لإنتاج معرفة تستوحي النص وتتعداه».
ويستبعد برادة وجود نص روائي عربي بصبغة محلية خالصة بسبب التلاقح والتفاعل وتبادل التأثير، فهناك اليوم شكل كوني للرواية كمحصلة للتناص الذي يحكم إنتاج النصوص. ذلك أنّ الاشتباك مع الشكل الواقعي الكلاسيكي الذي تبلور في الرواية الأوروبية في القرن التاسع عشر ألقى بظلاله على معظم الروايات العربية بين عشرينيات القرن العشرين وخمسينياته، وخصوصاً عند نجيب محفوظ في مرحلة أساسية من إنتاجه. كما حضرت بصمة الرواية الوجودية في الخمسينيات عبر نصوص سهيل ادريس، ومطاع صفدي، وليلى بعلبكي. هكذا، فإنّ اللغة المشتركة، والأسئلة الثقافية والاجتماعية المتقاربة، تفتح الطريق أمام التفاعل والتصادي والمقارنة، ما يساعد على معاينة الإضافات والتأثرات والاختلافات الفنية.
وتتمثل علاقة النقد بالرواية أيضاً، في بلورة التحولات التنظيرية والتاريخية للرواية العربية، واحتمالاً للرواية الكونية، بفحص النتوءات والانعطافات المتحققة داخل النصوص، ومعاينة المقترح السردي ودلالاته المغايرة. ولعل من أبرز التحولات التي رصدها النقد في الرواية العربية الجديدة ــــ وفق ما يقوله برادة ــــ «استيحاء أشكال من التراث السردي والتاريخي تطلعاً إلى بلورة شكل عربي للرواية»، من خلال إعادة تأويل الفضاءات، أو محاولة كتابة التاريخ تخييلياً، ومساءلة الراهن، وتوظيف اللغة في رسم تضاريس الشخوص والمناخات الاجتماعية والنفسية. أضف إلى ذلك أيضاً الوعي بضرورة تعدد اللغات والأصوات وانتشار ثيمة الاضطهاد والقمع، أو ما يتصل بالأزمنة الرمادية العربية، إلى تحولات السيرة الذاتية في فضاء التخييل. ويخلص برادة إلى أنّ نقد الرواية يحتاج إلى أن يتعامل مع النصوص على أنّها تمتلك وجوداً مستقلاً، وفي الآن عينه لها امتدادات وتناصّات وتوافقات وأصداء مع نصوص أخرى.
في فصل آخر، يطرح الكاتب سؤالاً عن «إعادة تحديد إشكاليّة المحلية والعالمية»، ويشير إلى صعوبة التعميم في هذا السياق، ما دامت هناك روايات عربية، لا رواية عربية ذات هوية واحدة. ويتفادى الوقوع في شرك «العالمية تمرّ عبر المحلية». إذ إنّ هذا التصوّر «يتجاهل ويلغي ترسانة الأجهزة والمحافل والأسواق الكامنة وراء شروط العالمية». وعن فكرة إيجاد أصول للرواية في التراث السردي العربي لتحقيق شرط المحلية، فإنّ هذه الفكرة ظلت عرجاء، لأنّها تتجاهل سياقات أخرى أثّرت في تطور السرد العربي، بدءاً بالترجمة إلى نظريات الرواية الحديثة وما بعد الكولونيالية. إذ سلكت الرواية العربية مساراً آخر بالانخراط في أسئلة العصر، و«الكتابة من خارج أسوجة الأيديولوجيا» والميراث البلاغي الثقيل، عبر ورشة التجريب في الستينيات. ما أتاح للرواية العربية أن تبدع نصوصاً جريئة.
وهو ما مكّن الرواية العربية من مدّ جسور وطيدة مع الرواية في أبعادها الكونية، وإذا بها «ترتاد مناطق الكلام الممنوع وتتوغّل في إنتاج خطاب مركّب يمتح من المعيش والذاكرة والتاريخ والأسطورة، لتوسّع معجم الاحتجاج والرفض والمكاشفة»، إضافةً إلى تطويع اللغة وانتهاك المقدس.
هكذا، التفتت النصوص الجديدة إلى استعادة تجارب الخيبة والإحباط والسجن والمنفى، وترسيخ صورة القطيعة بين الدولة والمجتمع المدني. كما اعتنت الرواية العربية بتأريخ الذات بجرأة وصراحة. ولعل في «الخبز الحافي» لمحمد شكري أفضل مثالٍ على تصدير البؤس الشخصي.
ويلفت برادة أخيراً إلى إمكان إنجاز رواية حداثية في مجتمع مغلق، إذ كثيراً ما اخترقت بعض النماذج الروائية الشروط المضادة للكتابة، «داخل عالم لا ينفكُّ يُوغل في متاهات الجنون والعنف والاغتراب».