أمل الأندري في «الصلاة الأخيرة»، يرسم الروائي حميد قرين فسيفساء المجتمع الجزائري المتخبّط في تناقضاته، من خلال صحافي يتأرجح باستمرار بين التقاليد والدين من جهة، والتحرّر والليبرالية والتقدّمية من جهة أخرى. الـ«فصام» نفسه، نقع عليه في الصور التي التقطها السويسري مايكل فون غرافنريد في الجزائر، على مرحلتين، منذ أوائل التسعينيات.
للوهلة الأولى، قد تخال نفسك في بيروت الستينيات النابضة بالتطلّعات والأحلام والأوهام. لكن مهلاً، نحن في جزائر التسعينيات، وتلك الصورة لنساء يرقصن في حفلة أو لمحجّبة تنفرد بحبيبها على شاطئ البحر... ليست سوى استئذان عابر من آلة الموت، واستراحة خاطفة في بلد صادرت الحرب وجهه الآخر طوال سنوات، فإذا به ينزلق إلى الجحيم، ويأكل أبناءه، يذبح مثقّفيه وكتّابه وشعراءه.
هذا الجحيم نزل إليه غرافنريد، حين زار الجزائر عام 1991 ليبقى فيها ثماني سنوات «سارقاً» لحظات من يوميّات الجزائريين في دوّامة العنف... فإذا به يوثّق لذاكرة جماعية ومأساة مجتمع غرق على غفلة منه في أتون الإرهاب والحرب. وقد صدرت تلك الصور الفوتوغرافية في كتاب «الجزائر: صور عن حرب بلا شواهد»(1998). وهو عنوان المعرض التي افتُتح أمس في «الهنغار» بمبادرة من جمعية «أمم» ويستمر حتى 20 الشهر الحالي. لطالما جذبت المجتمعات المركّبة غرافنريد. شبّهه بعضهم بمواطنه روبرت فرانك الذي اشتهر في الخمسينيات بصور ألقت نظرة نقدية ساخرة وباردة على بلاد العم سام. لكنّ النقّاد يرون غرافنريد أقرب إلى الفرنسي روبير دوانو أو حتى إلى الأميركي اليوت ايرويت اللذين منحا الصور الفوتوغرافية المضحكة وجهَها الرصين، أو لنقل «اللائق ثقافياً».
ولعلّ هذه الإحالة إلى المصوّرين المذكورين بدأت عندما صوّر غرافنريد أعضاء البرلمان السويسري نياماً خلال إحدى الجلسات. وتكرّس هذا «الصيت» لاحقاً حين قرّر وضع مجتمعه تحت المجهر، فخرج بسلسلة صور تضجّ بالسخرية والغرابة والمفارقات المضحكة.
إلا أنّ الأصولية الإسلامية، «قضية المستقبل»، هي التي جذبت غرانفريد على حد تعبيره. هكذا، وجد نفسه في الجزائر حيث «تعلّم أموراً كثيرة، لكنّه لم يفهم شيئاً». والنتيجة كانت صوراً متوتّرة معظمها بالأبيض والأسود، التقطها بكاميرا بانورامية من دون علم أبطاله. وبعد سنوات، سيعود برفقة المخرج الجزائري محمد السوداني ليحقّقا شريطاً وثائقياً حمل عنوان مجموعته الفوتوغرافية، واستند إلى لقاءات مع الأشخاص الذين صوّرهم غرافنريد من دون معرفتهم. والشريط يُعرض حالياً على هامش المعرض البيروتي الذي يضمّ حوالى 34 صورةً. وإذا كانت الحرب معلنةً في بعض صوره، كتلك التي تُظهر الجيش الجزائري وهو يقصف بالمدفعيّة معقلاً للإسلاميين في منطقة المدية، فإنّ معظم صور المعرض تَشي بحرب خفيّة نتلمّسها في يوميات الجزائريين، وفي التفاصيل الهامشية والمزاج العام. صور/ شواهد تحكي مأساة مجتمع متشظٍّ يحاول التشبّث بطقوسه الروتينية، لكنّها أيضاً تحكي نسيجاً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً مركّباً ومعقّداً: هكذا، نرى محجّبة في شارع الأبيار تحمل «الباغيت»، آخر شواهد الحقبة الاستعمارية... أو فتيات صغيرات من الأمازيغ. وسط كل هذا، وحده الخوف يوحّد الجميع من عجوز أمازيغية تحرس منزلها ببندقية... إلى تلك الفتاة الصغيرة التي تنظر من وراء نافذتها، فتحيل قضبان شبّاكها سجناً. وسط هذه التراجيديا، يطلّ غرانفري، ليلعب مجدداً على المفارقات. هكذا، يَخرج بصورة لمباراة أقيمت عام 1997 بين فريقي كرة قدم نسائيين، بينما جمهورهما من الرجال فقط!
في بحثه عن الحقيقة، يحار بطل حميد قرين بين تصرّفات الإسلاميين الواضحة وفساد الطبقة السياسيّة الرافعة لواء التقدّمية... أمّا غرافنريد فيقول إنّ الإسلاميين خالوا أنّهم وجدوا طريقاً ثالثاً إلى اليوتيوبيا... فكانت النتيجة مأساة جديرة بالتراجيديات الإغريقية!

«الجزائر: صور عن حرب بلا شواهد» ــ معرض صور حتى 22 نيسان ـ
«الهنغار» (حارة حريك) ـ 01،553604