سعد هادي على مدى أكثر من شهر، عكف مهند على النص وأعاد بناءه وغيّر طابع المشكلة لتتلاءم مع الواقع اللامعقول عراقياً. بل يمكن القول إنّ ما قام به مهند هو تأليف نص جديد، على أطياف هيكل لم يبق ما يدلّ عليه سوى عبارات وجمل متفرقة. إذ إنّ معظم الحوار جديد، يجري باللغتين الألمانية والعربية، ويتنقّل الممثلان بين اللغتين (تتم الترجمة على شاشة في أعلى المسرح) أو يمزجان بين مفرداتهما في لحظات الاحتدام والتصاعد.
تتناول المسرحية امرأة من الغرب ورجلاً من الشرق، يجدان نفسيهما في بيت في بغداد، لا يستطيعان الخروج وليس أمامهما غير استعادة الماضي والبحث عن نقاط القوة والضعف، التشابه والاختلاف، الحب والكراهية في حياتهما المشتركة. لا تريد المرأة لزوجها أن يخرج، بينما يصرّ هو على ذلك، لأنّه لا يريد أن يتعفّن بين أربعة جدران، لكنّه متردد ويجد في إصرار زوجته مبرراً لعدم الخروج. هكذا، تتردد أصوات الانفجارات، وسيارات الإسعاف وصرخات المارّة وصدى أصوات المذيعين في نشرات الأخبار في المنازل المجاورة، بينما يعومان هما في تيار من ذكريات وأفكار وتساؤلات لا تنقطع عن جدوى الحياة في عالم مماثل. لكن هل الموت هو الحل؟ يظلان في تنقّل مستمر بين حالاتهما: الحب والكآبة والخوف داخل الفضاء الضيق المتاح، بينما يهبط السقف تدريجاً حتى يسحقهما أو يأخذهما إلى عالم آخر. يرى المخرج أنّه عالم لا يخلو من الأشرار والقتلة واللصوص، إنها دائرة الوجود المستمرة التي أضيف إليها الإرهاب والعنف والموت المجاني بشكل لم تشهده البشرية قبلاً. وأصبح السؤال الفلسفي هناك محض عبث، والتساؤل عن معنى الوجود أشبه بالسخرية من الذات. نعم القتلة في كل مكان يصنعون العزلة حيثما كانوا، والخوف الإنساني هو نفسه أمام الطغيان والوحشية والجريمة. أما الخاسر الوحيد فهو الكائن البشري الذي يريد إنقاذ ما بقي من إنسانيّته. أما النهاية فليست حلاً، بل تذكير بالمصير الغامض للعالم إذا تنامت فيه نزعة الشر بنفس الدرجة التي تنمو بها في العراق حيث ما يجري أشبه بمختبر هائل لتطوير نزعات الدمار والجنون.
الرجل والمرأة في «رحلة الهبوط» لا يرمزان إلى الشرق والغرب فحسب، بل ربط بينهما الحب والعادة والحاجة الجسدية، وهما عنصران في صورة موجزة لعالم يتداعى وتتداعى قيمه ومظاهره، المشكلة هي في النوع الإنساني وليست في مكوناته.
يستخدم مهند هادي الأشياء التي يضعها على الخشبة استخدامات متعددة: السرير العمودي يتحول إلى باب أو جدار، والحقائب إلى مقاعد والستارة إلى سقف ينهار ببطء. وهو في هذا العرض يطوّر من الإطار الخارجي لعرضه، لا بحثاً عن الجمال بل لمزيد من الإقناع وتقريب الصورة. الكوابيس هي نفسها (كما الحال في «حظر تجوال») لكنّها تختلط بألوان حارة وأضواء ساطعة وبأنغام ساكسوفونات كأنها تنوح، بينما تهبط من الأعلى فقاعات احتفالية.
يقول مهند هادي في مقدمته للمسرحية عن زمن العرض: «بعد شهر، قبل سنة، لا فرق. العرض مفتوح من الناحية الزمنية، زمن غائب المعالم والتاريخ، زمن الحروب وعزلة الإنسان المميتة». لكن السؤال الذي لن يفلت منه المُشاهد، هو: إلى متى؟