الكاتب الهندي الذي زار القاهرة محاضراً في جامعتها الأميركيّة، يعترف انه مدين بتكوينه لمصر التي زارها في الثمانينيات... يحرّكه حنين إلى زمن «عدم الانحياز». وأوحت إليه برواية مبنيّة عند نقطة التلاقي الحرجة بين الثقافات
القاهرة ـ دينا حشمت
«أصبحت الهند ومصر تشعران بنوع من اللامبالاة المتبادلة»، هذا ما لاحظه الكاتب الهندي أميتاف غوش (1956) خلال زيارته الأخيرة إلى القاهرة ضمن احتفالية افتتاح المقر الجديد لاتحاد الكتّاب المصريين. «لم يعد المصريون حتى يشاهدون أفلاماً هندية»! لا ينفي غوش أنّه يشعر بنوع من الحنين إلى مرحلة «حركة عدم الانحياز»... تلك الفترة التي كان فيها التقارب بين الرئيسين نهرو وعبد الناصر رمزاً لهموم مشتركة وأهداف طموحة واحدة. وقد تميّزت بالحوار بين قارات جنوبية عدّة. يرفض غوش أن يقول إنّه لم يعد لتلك الفترة أي توابع في واقعنا المعاصر. «لا أظن أنها ذهبت سدى، كما لا أظن أنّ الهند كانت ستصبح على ما هي عليه اليوم لولاها. إنها فترة كانت مهمة ولا تزال، وقد أثّرت في مسار البلدين بطرق شتى، قد لا يكون بعضها واضحاً تماماً».
عندما جاء أميتاف غوش إلى مصر لأول مرة عام 1981، كانت «حركة عدم الانحياز» قد باتت من علامات التاريخ، لكنّه يرى اليوم أنّ هذه الروح هي التي جعلت رحلته ممكنة: «لم أتمكن من القيام بتلك الرحلة، إلا بفضل العلاقات الجيّدة بين مصر والهند. ما بعد الكولونيالية هي التي جعلت إقامتي في مصر ممكنة».
الحوار الجنوبي المباشر، من دون المرور بالمركز الامبريالي هو ما ألهم غوش. وربما كان ذلك الإلحاح على تجنّب ارتداء عدسات النظرة الاستشراقية هو ما جعل كتابه «في أرض قديمة» (1994) يدخل فوراً إلى قلب القارئ المصري. وحتى لو حكى فيه وقائع إقامة شاب هندي وحده في قرية صغيرة في الدلتا، فإنّه لم يركّز أبداً على وصف تفاصيل قد تبدو غرائبية بالنسبة إلى القادم الجديد. إنّه عمل كتبه راويه من وجهة نظر متعاطفة لا تنبع من الشفقة، بل من فهم عميق لوحدة المصائر. لكنّه في الوقت عينه كتاب لا يتجنّب الخوض في الاختلافات الثقافية بحجّة وحدة المصالح. هكذا، يروي «الصدمة» المتبادلة بين «قرية لطيفة» و«أميتاف غوش»، كما قال في محاضرة ألقاها في الجامعة الأميركيّة في القاهرة.
تتناول رواية «في أرض قديمة» لقاءً بين شاب هندي وسكّان قرية لا يتجاوز عددهم 4000 نسمة. وتروي العلاقات التي تكوّنت بينهم، والصداقة التي سرعان ما تربط «الدكتور الهندي» بشيخ موسى الحكيم العجوز، وبالأستاذ صبري المدرّس المتحمّس للتضامن الهندي مع مصر عام 1956، أو بنبيل الطالب الشاب. كما تروي ردود فعل الفلاحين لوجوده الغريب في القرية وأسئلتهم الملحّة والمستنكرة عن ديانته، وعن «حرق الموتى» و«عبادة البقر»، ورد فعله هو على هذه الحوارات. يحكي غوش مثلاً كيف أنّه خرج من قاعة استقبال الزائرين أثناء حفلة زفاف، منزعجاً من سيل الأسئلة الملحّ، فخرج وراءه نبيل يقول له: «إنّهم يطرحون عليك الأسئلة، بالضبط كما تفعل أنت»، طارحاً على الراوي تساؤلات ضمنية حول وضعه كباحث في القرية.
«في أرض قديمة» تستعيد أيضاً الحوارات العبثية التي قد تنتج من الاختلافات الثقافية، وأكثر هذه الحوارات قوة هو ذلك الذي يجمع بين «الإمام والهندي» الذي تحوّل بعد ذلك إلى عنوان كتاب لغوش صدر عام 2002 وهو عبارة عن مقالات تناول فيها الأصولية وتاريخ الرواية والأدب والثقافة المصرية. في مواجهة ملاحظات الإمام الاستنكارية عن طقوس الهند الدينية، ينفجر الراوي غاضباً، ويردّ على الإمام مستخدماً معاييره نفسها، أي تلك المرتبطة بالتفوّق التكنولوجي والتقدّم العسكري: «نحن لدينا بنادق ودبابات وقنابل! إنّها أفضل من تلك التي تمتلكونها أنتم!». يدرك لاحقاً كيف أنّهما شاركا، هو والإمام، في «هزيمتهما النهائية، في تفكّك قرون من الحوار»، وأكّدا بحديثهما هذا على «الانتصار الحتمي للغة السارقة لجميع اللغات التي كان الناس يستخدمونها للحديث عن اختلافاتهم».
تحمل الرواية نبرةً تشاؤميةً تعترف بالتهديدات التي تشكّلها «الإمبراطورية» على «حواراتنا»، كما تهدّدها أيضاً «الأصوليات» على حدّ تعبير الكاتب. الا أنّ الكتابة الروائية هي وصفة غوش لمواجهة تلك التهديدات وذاك التشاؤم.
كثيراً ما تستوحي كتابات غوش روح الرحّالة القدماء: كأن «في أرض قديمة» تتجاوب مع كتابات ابن بطوطة عبر امتداد تاريخي طويل. ما يلهم غوش هو «اكتشاف الروابط بين الهند وحضارات أخرى»، ويقوم نصّه على الـ«كزينوفيليا» أي حبّ الغريب، كشعور يؤسس الوعي الإنساني بالضبط كما تؤسسه الـ«كزينوفوبيا» أيّ كره الغريب.
أكّد غوش مراراً على أهمية رحلته إلى مصر في تكوين خياله ككاتب، وفي تناوله لفكرة تلاقي الثقافات، وحكى كيف شكّلت بالنسبة إليه «أفضل تدريب يحلم به أي كاتب»، حتى على مستوى تقنيّات الكتابة، إذ إنّه واجه معضلة تحويل ملاحظاته اليومية، «المادة الخام إلى قصة مكتوبة على الورق».
لكن يبدو أنّ الجانب المصري لم يعترف بعد بالأهميّة التي قد تشكّلها هذه القصة بالنسبة إليه. فرواية «في أرض قديمة» لم تجد طريقها بعد إلى اللغة العربية، ولا يزال القارئ العربي ينتظر أن تتاح له متعة الخوض في رواية صادقة عن لقاء شاب هندي بسكّان قرية صغيرة في محافظة البحيرة، لم تفرّقه عنهم فقط اللغة والدين، بل أيضاً كونه ينتمي إلى «أهل المدن» الذين تختلف أنماطهم الثقافيّة عن «أهل الريف» الذي يميّزون حتى بين سكّان القرية الواحدة، بين «موظفين» و«فلاحين». وهذا ربما ما يجعل من قراءة «في أرض قديمة» تجربة تحمل نبرات أليفة، كتجربة أي واحد منّا في الدخول إلى عالم الريف «المختلف»، قادماً غريباً. وهو العالم الذي يكشفه غوش هنا عبر اللقاء بالآخر، معبّراً ببراعة عن تناقضات العلاقات الإنسانية، بعيداً عن أي صور تشوّهية وتحقيرية، أو تجميلية نمطية.


بين دمنهور ونيويورك...
عندما جاء إلى مصر أول مرة، كان طالباً في الانتروبولوجيا الاجتماعية. قصد قرية صغيرة قرب مدينة دمنهور في محافظة البحيرة لإتمام رسالة دكتوراه عن «التنظيم الاقتصادي والاجتماعي في جماعة قروية صغيرة»، عاد فناقشها في جامعة أكسفورد سنة 1981.
وجاء أميتاف غوش أيضاً محمّلاً بقصة قرأها في مكتبة أكسفورد، عن عبد هندي يعمل لدى تاجر تونسي يهودي يُدعى أبراهام بن يجو. ذهب هذا الأخير من تونس إلى مصر ثم رحل إلى الهند، حيث أقام 18 عاماً وتزوّج هندية وأنجب منها، ثم عاد إلى مصر. وطوال هذه الفترة، كان العبد الهندي يرافقه، بعدما أصبح مساعده في الأعمال والتجارة. لكنّه انتظر سنوات طويلة قبل أن يكتب عن هاتين الرحلتين اللتين نجدهما متضافرتين في كتابه «في أرض قديمة» (1994)...
وبقيت فكرة الرحلة حجر الأساس الأساسي في رواياته اللاحقة. في «دائرة العقل» (1986) ــــ وهي الرواية التي حاز عنها جائزة «ميديسيس» الفرنسية للأعمال الأجنبية ــــ يرحل “علو” عامل النسيج من القرية التي ترعرع فيها في البنغال، إلى بلد خيالي في منطقة الخليج، ومن هناك إلى الجزائر. وفي «كروموزوم كالكوتا» (1995) يصطدم مهندس كمبيوتر بالعالم السفلي ومرض المالاريا. أما «قصر الزجاج» (2000) فتقع حوادثها في بورما وفي الهند، وقد رفض غوش ترشيحها لجائزة «كومنولث» للأدب عام 2001، احتجاجاً على «النظرة الإمبريالية إلى التاريخ» التي تسوّقها هذه المؤسسة في العالم. غوش يقيم حالياً في نيويورك، حيث يدرّس الأدب المقارن.