strong>محمد خير
هل تسحب الفضائية البريطانية البساط من تحت أقدام القنوات الإخبارية العربية؟ إضراب مصر واضطرابات المحلّة مثّلت الامتحان الأوّل لـ BBC العربية. وقد اجتازته بنجاح، فتفوّقت على «العربية» ونافست «الجزيرة»، ودشنّت مرحلةً جديدةً من التنافس الإعلامي
هل يمكن قناة «بي بي سي» العربية التلفزيونية أن تحقّق أهدافها وبأسرع مما تظن، ويظن المشاهد؟ وهل يمكن المحطة التي انطلق بثّها في 11 آذار (مارس) الماضي أن تنجح في «سحب البساط» من تحت القنوات الإخباريّة العربيّة الأخرى. حتى وإن كان عبد الرحمن الراشد (مدير قناة «العربية») قد أعلن أنّ «البساط كبير يتسع لعشر محطات»؟
إلا أنّ BBC لا تضع نصب أعينها قناة «العربية». هذه الأخيرة احتفلت قبل أسابيع بخمس سنوات على تأسيسها، لكنها لم تفلح بانتزاع مقعد «الجزيرة». وإذا بالقناة القطرية الأكثر شعبيةً، تدخل منتصف دائرة قنص تلفزيون «بي بي سي» الجديد.
أمّا «العربية»، فقد تلقّت ضربة كتف قوية قبل أيام، عندما فشلت (متعمدة؟) في السباق الثلاثي لتغطية إضراب مصر واضطرابات المحلّة. وهي الأحداث التي دشّنت المولد الحقيقي للتلفزيون العربي ذي التقاليد البريطانية العريقة.
لم يكن في القمة العربية الأخيرة غير الملل، لذا فإنها لم تمثّل محكاً يمكن أن يميّز قناة تلفزيونية عن أخرى أو يتفوّق خلاله فريق إخباري على آخر. أمّا الأحداث التي وقعت في مدينة المحلّة، معقل صناعة النسيج المصرية وصاحبة الريادة الصناعية والنضالية العمالية، فكانت ــ تلفزيونياً ــ بمثابة هدية جاهزة لأيّ قناة تحاول أن تكون إخبارية، أو تدّعي بأنّها كذلك. هدية مغلّفة بإضراب عام، أفرغ شوارع مصر المزدحمة في مشهد استثنائي، وعاصفة ترابية هبّت فجأة كأنها تضفي لمسة إثارة وغموض على المشهد. استنفرت القنوات الإخبارية طواقمها، لكنّ بعضهم نسي أن تلك هي أول الأحداث الكبيرة بعد إقرار الميثاق المشبوه لتنظيم البث الفضائي. هكذا بدت بعض القنوات كأنّها ألزمت جبرياً عدم التركيز على الإضراب. والمقصود هنا القنوات المصرية الخاصة التي تعلمت من درس رأس «قناة الحوار» الطائر، إثر إيقاف بثها على قمر «نايلسات» قبل أيام قليلة من موعد الإضراب. وكانت البرامج التلفزيونية الحكومية أشد سوءاً. إذ جعلت من «ماسبيرو» كعادته مركزاً يضفي معنى جديداً إلى كلمة فضائيات. ذلك لأنّه بدا كأنه ينقل أحداثاً من الفضاء الخارجي لا علاقة لها بكوكب الأرض. لم ير مسؤولوه إضراباً ولم يلحظوا غياباً عن المدارس والجامعات، ولم ينتبهوا لسيولة مرورية مذهلة أو لتظاهرات مجهضة.
هكذا إذًا بدا الملعب فارغاً للمحطات الثلاث المتنافسة: «الجزيرة» و“العربية” والوافد الجديد «بي بي سي»، في ظل بديهية تقضي بعدم اهتمام «الحرة» الأميركية بأحداث «عمالية». في اليوم الأول (6 نيسان/ أبريل)، بدا الوضع هادئاً على شاشة «الجزيرة»، على حد وصف مقدم النشرة «استجابة محدودة للإضراب». وقناة «العربية» بدت كأنّها تبث بدورها من «ماسبيرو»: أحداث الإضراب لم تحتل أكثر من فقرة أو اثنتين على شريط الأخبار. وكالعادة، تبنت القناة المقولات الحكومية والخطاب الرسمي لوزارة الداخلية المصرية. بينما عبّرت عن الإضراب بعنوان هو «حركة كفاية «تحرّض» على الإضراب». وهو ما يبدو اتهاماً قانونياً أكثر من كونه عنواناً إخبارياً، واهتمت بشكل خاص بالتحذيرات الحكومية من «تعطيل العمل بأجهزة الدولة». وربما لذرّ الرماد في العيون، صرحت مديرة مكتب القناة في القاهرة بأنّ مراسلها تعرض لمضايقات أمنية، اتضح أن المضايقات ــ وفقاً للتصريح نفسه ــ هي سؤاله عن تصريح التصوير بينما كان في شارع قاهري.
في هذه الأثناء، كان مراسلا «بي بي سي» في المحلة والجيزة عرضة لمحاولات اعتداء عليهما، وانتزاع شرائط تصوير، بينما تعرض مصور «الجزيرة» ومساعده للاحتجاز بعد يومين من أجهزة الأمن، أثناء تغطيتهما أحداث انتخابات المحليات في منطقة قريبة من المحلة.
بدءاً من اليوم التالي لإضراب المحلة، تداركت «الجزيرة» نفسها. وأسهمت في نقل ما حدث في المدينة العمالية من خلال شرائط مصورة حصلت عليها القناة، صوّر بعضها بالفيديو وبعضها بالموبايل. أمّا BBC العربية، فعلى الرغم من أن ساعات بثها ما زالت لم تتعدَّ 12 ساعة يومياً (من العاشرة صباحاً إلى العاشرة مساءً بتوقيت غرينتش)، فاستطاعت أن تتابع أحداث المحلة على الهواء منذ اللحظة الأولى، وإن كان عن طريق الهاتف. امتلأ شريط أخبارها بأخبار الإصابات والاعتقالات والاعتداءات على رجال الإعلام، وحرصت على نسب كل فقرة على شريط الأخبار إلى «مراسل بي بي سي» في القاهرة أو المحلة، ما زاد من صدقيتها. ولم يتضمن الشريط أخباراً من عينة «أنباء عن...»، وهو ما يعيب أحيانًا بعض القنوات الأهم عربياً. كما أنها لم تتصل بأي من الخبراء أو الأطراف السياسية من دون أن توفر ــ في التقرير نفسه ــ الطرف المقابل. باختصار، يبدو النجاح الذي حققته «بي بي سي» العربية في اختبارها الأول، غير مبنيّ فقط على جهد مراسليها. بل على قواعد مهنية وموضوعية قد تضيف الكثير إلى الإعلام التلفزيوني العربي. وإن كانت قناة العربية قد تأسست من أجل «إعلام موضوعي معتدل وغير منحاز»، فإنها لم تقدم سوى انحياز مقابل معاكس. وتبدو «بي بي سي» أقرب إلى تبنّي شعارات «العربية» وتطبيقها بالفعل، ما قد يسهم في ضبط بعض «شطحات» زميلتها «الجزيرة». لكنّ اختباراً أصعب بكثير ما زال في انتظار المحطة البريطانية، اختبار سيظل معلّقاً إلى حين وقوع اعتداء إسرائيلي أو أميركي جديد على المنطقة... لحظتها يجيء المحكّ الحقيقي.


تلفزيون تحت الطلب

وائل عبد الفتاحكيف والرئيس مبارك لا يمتلك جاذبية السادات مع جمهور هجر التلفزيون الواحد إلى تلفزيونات متعددة؟ الآن، أمام الجمهور «دريم» و«المحور» و «الحياة»... إلى جانب «هنا القاهرة» على «أوربت»، إذا امتلك ثمن التشفير... هل سينجح سيناريو «انتفاضة الحرامية»؟ السؤال كان صعباً حتى صدم الجمهور بأن السيناريو ينجح بقوة، وأن إضراب الناس العشوائي تحول إلى «تخريب» لمصر، و«عصابات الإثارة والعنف»... اختار محترفو السيناريوهات في الأجهزة زاوية تبدو موضوعية، ووضعوها عنواناً في البرامج الجماهرية مثل «العاشرة مساءً» و«90 دقيقة»: التخريب لا الاحتجاج، فلتان الناس لا القوة المفرطة للشرطة...
هذه كانت عناوين المناقشات. البداية أسئلة خاطئة بل مغرضة، والنهاية إجابات توجّه الرأي العام. وبدلاً من جاذبية الرئيس، استغلت الأجهزة تصديق الجمهور أنّ القنوات خارج السيطرة ومع الناس، وأصدرت تعليمات سرية وحازمة: هذه هي الصورة التي نريد أن يراها الناس في مصر لما حدث. ولم يخرج أحد عن السرب. أدت القنوات والبرامج دورها بقليل من ارتباك «أخلاقي»، بدا على وجه مقدّمي البرامج.
بدت سطوة الأجهزة ثقيلة جداً على حرية المحطات. والتلفزيون الواحد أصبح تلفزيونات، لكنها تساوي واحداً في المحصلة النهائية ما دامت المهنية والاحتراف والاستقلال هي شعارات ترفع في فسحة ضيقة. وتنتهي عند حدود أصغر ضابط في جهاز أمني يمكنه أن يغلق المحطة بجرّة قلم... يتلقّفها موظف موغل في البيروقراطية. ستغلق المحطة وتضرب المصالح التي تنتهي دائماً عند مركز في الأجهزة... هكذا كان «كله تحت السيطرة». ولم تفلت سوى أجيال جديدة من المدوّنات بمزاجها الحار، صنعت صحافة شعبية خارج السيطرة وستصبح هدفاً للضرب والقمع. هذه الصحافة كشفت سيادة نظرية الإعلام تحت الطلب. وفي مقابل مذبحة المتظاهرين في شوارع مدن مصر، كانت أجهزة الأمن بدفعها قنوات التلفزيون إلى تغطية من ماركة «انتفاضة الحرامية» تتحدث عن التخريب، أقامت مذبحة إعلامية غير مسبوقة، احترقت فيها الصدقية كما احترقت مدينة المحلّة الكبرى... وهذا دليل على أن الرعب متبادل، وأنّ الأوهام تحترق ونحن نتفرّج عليها.