strong>بشير صفير«المهرجان الدولي للموسيقى التجريبية» يعود هذا المساء إلى بيروت، ببرنامج مقتضب لا يخلو من المفاجآت. المشروع الطليعي يواصل رهانه على الاستمراريّة، وعلى توسيع رقعة انتشاره. ماذا لو حاولتم اكتشافه؟
في 29 أيار (مايو) 1913، خرجت الكونتيسة الفرنسيّة من الصالة وهي تمزّق مروحة يدها، ثم صرخت بصوتٍ ما زالت أصداؤه تتردد حتّى اليوم: «إنّها المرة الأولى التي يهزأ فيها أحدٌ منّي». ثم خرج المؤلف الموسيقي الفرنسي الكبير موريس رافيل، وقال: «عمل عبقري». كان ذلك في باريس، خلال العرض الأول لباليه Le Sacre du printemps للروسي إيغور سترافينسكي. السنة الماضية في بيروت، خلال الدورة السابعة لمهرجان «ارتجال»، خرجت سيّدة من الصالة لتردّد العبارات نفسها تقريباً، ونجا هاتفها المحمول بأعجوبة من مصير مروحة الكونتيسة الفرنسية. المقارنة تقف هنا ربّما، لكن السؤال يبقى مطروحاً عن مصير الموسيقى التجريبية في لبنان، ومدى قدرتها على استقطاب جمهور أوسع نسبيّاً... ومواجهة حكم الزمن.
عشية انطلاق «المهرجان الدولي الثامن للموسيقى التجريبية في لبنان» أو «ارتجال 08»، نتذكّر أن جزءاً مهمّاً من الجمهور لم يتقبّل هذا النمط الموسيقي، وربّما لن يتقبّله يوماً. لكن ذلك لا يقلل من أهميّة المشروع وإنجازات الموسيقيين القيّمين عليه، وخصوصاً روّاد هذا التيار محلياً، مازن كرباج ورائد ياسين وشريف صحناوي وزوجته كريستين. لبنان هو حتى الآن البلد العربي الوحيد الذي شهد تجذّر ذلك الاتجاه الطليعي، بفضل مجموعة من الفنّانين الشباب المجددين، فلنعطهم الفرصة التي يستحقونها.
في عالم الموسيقى الكلاسيكية الغربية التي ترى الموسيقى التجريبية المرتجلة الحرة امتداداً لها ــ رغم أنها تنسب إلى الجاز في معظم الأحيان ــ وُلد العديد من التيارات التي غيّرت علاقة الجمهور بالموسيقى. الاتجاهات الأقرب إلى عالم التجريبية، ظهرت خلال النصف الأول من القرن الماضي، ونقلت الموسيقى من النغمة إلى الصوت الواقعي، فدخلها الخارج الملموس، أي الصوت الصادر من حركة المجتمع، أو الضجيج، مع بيار شافر ومن بعده بيار هنري... ثم بحث جون كايدج عن ضجيج الصمت، وترجم غزيناكيس الأشكال الهندسية إلى أصوات.
أما إذا أردنا تعريف التجربة التي يرتكز عليها فنياً تيار الموسيقى التجريبية، فيمكن القول إنّها محاولة وضع تصوّر لصوت الواقع، بعفويته وعشوائيته المزعجة، وتفاعلاته القائمة بجزء منها على المصادفة والمفاجأة والخطر، وتجسيد ذلك الصوت على المسرح (أو في الاستوديو). هكذا توضع صورة الواقع بضجيجها، في مواجهة أذن اعتادت ذلك الواقع إلى درجة انعدام أي إحساس به. وربّ سائل: لماذا استعمال آلات موسيقية غالباً، إذا كان كلّ ما يبتغيه الموسيقيّ منها، هو استصدار الضجيج؟ أولاً، لأنّ ما يقوم به العازف هنا، هو محاولة توسيع قدرات آلته الصوتية، لإخراجها من المألوف الذي قارب الاستنزاف. ثانياً، لأن رؤية الآلة الموسيقية مرتبط ذهنياً لدى المتلقّي بصوت محدّد يعرفه... وحين تؤدي الآلة نفسها صوتاً فعلياً آتياً من الخارج، يصاب بصدمة، لأن أذنه تفتقد الصوت المألوف الذي تتوقّعه. وفي بعض الحالات، يعود الموسيقي إلى الاستخدام «الطبيعي» للآلة، فيصدم المتلقّي الذي يتوقّع صوتاً تجريبياً وغير مألوف. أما استخدام الإلكترونيات، فيدخل مفهوم التكنولوجيا إلى المعادلة، مساهماً في «وقعَنَة» المادة الصوتية/ الموسيقية.
بعد ثماني سنوات على تأسيس هذا المشروع الطليعي في الشكل والمضمون، وعلى رغم التجاهل الإعلامي، فإنّ «المهرجان الدولي للموسيقى التجريبية في لبنان» الذي تنظمه جمعية MILL (الموسيقى المرتجَلة الحرة في لبنان)، مواظب على موعده. لكن حالة الركود العامة أثرت عليه بعض الشيء: بعدما اتبع منذ انطلاقه في آب (أغسطس)2001 وتيرةً تصاعديةً بلغت أوجها في نيسان (أبريل) 2006، مستضيفاً أبرز الأسماء العالمية في مجال الموسيقى التجريبية (أكثر من 15 حفلة على مدى خمسة أيام)، بدأ يتراجع السنة الماضية (أقل من عشر حفلات على مدى ثلاثة أيام)، ليصل مرغماً هذا العام إلى سبع حفلات موزّعة على يومين.
مساء اليوم، يفتتح «ارتجال 08» برنامجه بلقاء بين بازيل فيريو (فرنسا ــ إلكترونيات)، وجاسم هندي (لبنان ــ إلكترونيات) يتبعه الثنائي ماركوس أيشنبرغر (قبرص ــ كلارينت) وبشير سعادة (لبنان ــ كلارينت باص وناي)، ثم الرباعي كريستين صحناوي (لبنان ــ ألتو ساكسوفون)، إيدي بوبكر (فرنسي/ تونسي ــ ألتو ساكسوفون)، ماغدا ميّاس (ألمانية/ لبنانية ــ بيانو)، وهي التي قدمت منذ سنتين إحدى أمتع حفلات المهرجان منذ انطلاقته، وشريف صحناوي (لبنان ـــ غيتار). ويختتم اليوم الأول مارك قدسي (لبنان ـــ غيتار كهربائي) في عزف منفرد.
ويستمر المهرجان غداً مع طارق عطوي (لبنان ــ إلكترونيات)، يتبعه الثلاثي الأبرز هذا العام، ماتياس فورج (فرنسا ــ ترومبون)، مازن كرباج (لبنان ــ ترومبت) وفرانتس هاوتسينغر (النمسا ــ ترومبت). ويختتم البرنامج مع الثنائي الذي افتتحه (فيريو/ هندي).

«ارتجال 08» : 8:30 مساء اليوم وغداً ــ قبو كنيسة القديس يوسف، مونو (الأشرفية): 01،202422


كرباج يواجه العالم بساطوره

تعاني الموسيقى غير التجارية في الوطن العربي مشكلة حقيقية على مستوى الانتشار والوصول إلى جمهور تتحكّم وسائل الإعلام بتكوين ذائقته الفنّية. فإذا توافر الإنتاج، تعذّر التوزيع، أو العكس. وإذا توافر هذان العنصران في حالات نادرة، يصطدم العمل بتهميش وسائل الإعلام له، وتنتهي التجربة الفنية الجدّية في أسطوانة منسيّة على أحد الرفوف. إلا أنّ هذه المشكلة غير مطروحة في مجال الموسيقى التجريبية، لأنّ صانعيها لا يخطر في بالهم أساساً إمكان الإنتاج، أو التوزيع، أو الترويج عبر وسائل الإعلام. فالمشكلة ما زالت في مكان آخر: كم سنة يبعد المواطن العربي عن إمكان الشروع في التعرف إلى هذه الموسيقى؟ وكم سنة ضوئية يبعد عن التلهُّف إلى سماعها ومتابعة إصداراتها الجديدة؟
في عام 2005، أسّس مازن كرباج «المسلخ» وأصدر ألبومين: الأوّل حوى مجموعةً من المقطوعات التي أداها منفرداً على آلة الترومبت. والثاني جمعه مع موسيقيين آخرين من لبنان (شريف صحناوي وكريستين صحناوي) والنروج (إنغر زاغ).
للتعريف بمشروعه الذي يوثّق لهذه التجربة الفريدة، كتب مازن على أغلفة الألبومات: «المسلخ هو صحن طائر ألِّف لنشر ما لا يُنشر على الساحة الفنية اللبنانية». أما شعار شركة الإنتاج فهو «الساطور»!
وإلى جانب تنظيم اللقاءات الموسيقية والعزف والاهتمام بالتسجيل، يصمّم مازن كرباج أغلفة أسطوانات «المسلخ» التي لا تقل غرابة عن مادتها الصوتية. هكذا، توالت الإصدارات حتى بلغت سبعة: «تسجيل حفلة في بيروت 2005» للثنائي التاريخي بيتر بروتسمان ومايكل زيرانغ، «دير» لشريف صحناوي وتوم تشانت، «مغامرات كلارك كانت» لرائد ياسين وجين كولمان، «موجة» لمازن كرباج، مايكل بولوك وفيك رولينغز، و«راسو أرزة» الذي جمع مايكل زيرانغ بمعظم الموسيقيين التجريبيين في لبنان. ويقول مازن إن «المسلخ هو تذكرة السفر الأنسب لإيصال صدى هذه التجربة إلى الغرب... وليس الهدف الرئيس من تأسيسه نشر هذه الموسيقى في لبنان».