بيار أبي صعبهناك شعراء يسكنون في الجوار، ولا تراهم. يعيشون في زاوية معتمة منك، لكنّك تتركهم هنا وتواصل حياتك. ثم يتراءى طيف أحدهم لك من بعيد، فتخجل من نفسك. في الحقيقة الشعراء الملعونون نزلاء عقلك الباطني، يفضّلون العزلة، ويناسبهم ضباب النسيان. كمال خير بك، أحد هؤلاء. دفع الشعر إلى ذروة اليوتوبيا ومضى. أدرك مبكراً أنه «لا وطن للشاعر الذي يطارد ظلّه في صحارى العالم»، فـ«ودّع الشعر» واختفى فيه، كما في قصيدة شهيرة لطلال حيدر. طيف كمال خير بك يعود إلينا اليوم ـــــ بشاربيه الكثيفين ـــــ من خلال مجموعة قصائد غير معروفة، صنّفها أصدقاؤه في باريس، ربيع 1981، بعنوان «الأنهار لا تُتقن السباحة في البحر» (دار فكر للأبحاث والنشر). لا شكّ في أنها دعوة إلى التذكّر: «أذهبُ إلى الحرب/ ناسياً سيفي في قبضة هاملت (...) أنا الخنجر الذي يراوح في غمده/ والصرخة التي تتلعثم في حنجرة العالم».
كتب الشاعر هذه القصيدة (دفر قلق وأحزان) عام 1974، ثم عاش حياة صاخبة أوصلته ـــــ في الخامسة والأربعين ـــــ إلى تلك الشرفة التي اغتيل عندها في ساقية الجنزير (بيروت) عام 1980. رشف من معين واحد مع محمد الماغوط، هو الدارس المتمهّل لـ«حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر». واعتزل مثل آرتور رامبو، ليخوض العمل الثوري بمعايير تلك الحقبة وأدواتها. سيأتي باحثون يوماً ليلتقطوا خيوطاً سريّة ربطت، في وعي المرحلة، بين اليوتوبيا التي اقترنت بأسماء وديع حداد وفؤاد الشمالي وليلى خالد، وبين ما كانت تنتجه مختبرات الثقافة الطليعيّة في ذلك العصر الذهبي. وكمال خير بك هو التعبير الحيّ عن تلك الأواصر الخفيّة بين حلم الكتابة وحلم الثورة. الفرق أن القصائد تبقى، ونعود لنبحث فيها عن أوهام جديدة...