إذا كنت من قرّائه ويهمّك دخول محترفه السرّي... فعليك بـ«فتنة السؤال»، فهو خلاصة حوارات متنوّعة مع الشاعر البحريني الذي «يمشي مخفوراً بالوعول». الكتاب الذي حرّره سيّد محمود وقدّم له صبحي حديدي، يسلّط الضوء على تجربة خاصة وفريدة في الشعر الخليجي والعربي
حسين بن حمزة
يضم كتاب «فتنة السؤال» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) للشاعر البحريني قاسم حداد، منتخبات من أسئلة سبق أن وُجهت إليه في مقابلات سابقة، وإجاباته عن تلك الأسئلة. لكن قبل أن يبدأ القارئ تصفّح الكتاب، لا بدّ له من أن يتوقف أمام أمرين: الأول، يتعلق بالجهد المميز الذي بذله الصحافي سيد محمود في تحرير الكتاب، وفق استراتيجية تقوم على اختيار أسئلة محددة من 29 مقابلة أجراها شعراء وقصاصون وروائيون ونقاد وصحافيون مع الشاعر. والحقّ أنّه ليس يسيراً ابتكار ما يضمن الاستمرارية والتكامل، والروح والمزاج الموحّد بين أسئلة وجهها محاورون مختلفون في أزمنة مختلفة، ونشرت في أمكنة ومناسبات متنوعة. وقد نجح المحرر في تحقيق معادلة خاصة بالكتاب، إذ صار في إمكان القارئ أن يطالعه كمن يقرأ مقابلة واحدة تتوالى على مدى صفجات الكتاب كله... لكن ذلك لا يعني أن الحوار الجديد، المؤلَّف من الحوارات السابقة، مقسّم بحسب الموضوعات أو التراتب الزمني... أو أي تقنيات خارجية أخرى.
الأمر الثاني، يتعلق بالتقدير والامتنان اللذين لا بدّ للقارئ أن يبديهما أمام المقدمة المهمّة التي مهّد بها الناقد صبحي حديدي الطريق لفهم مادة الكتاب. إذ سرعان ما يهتدي صبحي حديدي إلى عصب كتاب هو ليس نصاً وليس تأليفاً، مُشركاً معه القارئ في النفاذ إلى الخطوط العريضة، والتفاصيل الدقيقة التي ترتسم وتتجاور حول هذا العصب الأساسي. الواقع أن صبحي حديدي لم يترك شيئاً لمستزيد في هذا السياق، إلى حد يمكن معه القول إن هذه المقدمة المكتوبة بحواس نقدية شديدة الذكاء والخصوبة، تكاد تغني القارئ عن أي مراجعة أو قراءة نقدية أخرى.
بعد المرور الضروري بالمقدمة وملاحظات المحرر، تصبح الطريق سالكة ومضاءة أمام القارئ كي يقوم برحلة في عالم قاسم حداد الشعري: رحلة يعود له وحده تقدير متعته فيها.
على مدى صفحات الكتاب، بشكل تدريجي، تفقد الأسئلة والأجوبة وقعها التقليدي، وبنيتها الإنشائية كسؤال وجواب، وتستحيل حواراً متبادلاً، ثرياً ومتنوعاً، يأخذ فيه المحاورون دور العازفين، فيما يتولى قاسم حداد دور «قائد الأوركسترا»، بحسب تعبير صبحي حديدي. لعلّ هذه التسمية، كما هو حال أي معزوفة طويلة، ومتشعبة الإيقاعات والأصوات، تبرّر سعي المحاورين في أسئلتهم إلى استدراج الشاعر كي يعرض شؤون قصيدته، وسيرته كشاعر وكاتب ومثقف وصاحب رأي سياسي أُدخل بسببه السجن في شبابه.
بهذا المعنى، يقدم الكتاب صورة شبه متكاملة عن تجربة هذا الشاعر الذي تدين الحداثة الشعرية في البحرين والخليج العربي له ولجيله بالكثير. لقد صنع صاحب «خروج رأس الحسين من المدن الخائنة» (1972) ما يصنعه الرواد عادة في ثقافة بلدانهم وآدابها. حتى إن بعضهم يطيب له أن يمنح صنيع حداد صفة «أدونيسية»، من حيث الدور والريادة والبحث والتطوير على المستوى الخليجي. الواقع أنّ لا مبالغة في مثل هذا الوصف الذي ينطبق على أماكن وتجارب عربية أخرى، إذ لا يمكن أن نعزو ما حدث من اقتراحات شعرية متقاربة في التوقيت والبحث عن فضاءات نصية جديدة في سبعينيات القرن الماضي في العراق وسوريا والمغرب ومصر إلى المصادفة وحدها. لقد شهدت تلك الفترة ولادة جيل عابر للحدود والتأطيرات المحلية المسبقة، وصار لدى كل شاعر من شعراء هذا الجيل مجايلون وأقران من بلده، وأقران ومجايلون في بلدان عربية أخرى. إن أي قراءة صحيحة وشاملة وعادلة لتجربة قاسم حداد، لا بدّ لها أن تأخذ في اعتبارها مكان هذه التجربة: داخل المشهد البحريني والخليجي كمستوى أول، وداخل المشهد العربي العام كمستوى ثانٍ.
هذه الصورة هي واحدة من النتائج المبكرة للحداثة الشعرية العربية كما تمثلت في تجارب الرواد والمؤسسين. لقد تسنى لهؤلاء الرواد أن تتحول طموحاتهم ومخيلاتهم الكبرى إلى ممارسات تفصيلية لدى الجيل السبعيني الذي يعدّ، بحق، أفضل من ورث تلك الطموحات الكبيرة، خالقاً لها مسالك وطرقاً فرعية، راح بعضها يتحوّل، شيئاً فشيئاً، إلى مسالك خاصة بشعراء هذا الجيل نفسه. داخل هذا الإطار، يمكن تفحّص تجربة صاحب «يمشي مخفوراً بالوعول» (1990) إلى جوار تجارب عباس بيضون ووديع سعادة وبول شاوول في لبنان، وسليم بركات ونزيه أبو عفش في سوريا، وسركون بولص وفاضل العزواي في العراق، ومحمد بنيس وعبد الله راجع في المغرب. لقد لعب هؤلاء دور الوسيط الحيوي بين تطاولات الرواد وجرأتهم على التراث التقليدي، وبين ما انتهت إليه ممارسات الشعرية العربية لدى الأجيال والتجارب التالية المستمرة حتى اليوم.
ضمن هذه الخلفية التاريخية والشعرية، يكتسب كلام قاسم حداد عن تجربته الشعرية والحياتية مذاقات وروائح ونكهات متنوعة. لقد نجح محاوروه في استنتطاق شتى مناطق تجربته، وأتاحوا للقارئ معرفة آرائه ووجهات نظره بشأن مواضيع مختلفة. ثمة أسئلة عن الشكل الشعري، الإيقاع، قصيدة النثر، طقوس الكتابة، الطفولة والأمكنة الأولى، المؤثرات الأولى، الحب والزواج والعائلة، تجربة السجن، تجربة مجلة «كلمات»، السيرة الشخصية، الشاعر والصحافة، الهواجس السردية في الشعر، أزمة الشعر، الاستقبال النقدي للكتابة، تجربة موقع «جهة الشعر» الالكتروني...
الكتاب يوثِّق كل ذلك كمادة صانعة ومتدخِّلة في صوغ كل قصيدة، وكل كتاب أنجزه الشاعر منذ ديوانه الأول «البشارة» (1970)، وانتهاءً بكتاب «لستُ ضيفاً على أحد» (2007). وهذا ما يجعل من الكتاب شاهداً على التجربة وليس مفسراً لها فحسب.