أنسي الحاجفي جبل مسحور ثلاثة كنوز: شجرة تغنّي، على كعبها نبع يرقص، وبين أغصانها يعيش عصفور حكواتي.
كثيرون حاولوا تسلّق الجبل، وتحوّلوا إلى حجارة، لأنهم ارتكبوا خطأ التلفّت حولهم عند سماع أصوات استغاثة، أو التأوّه والصراخ من عناء الصعود. وهكذا فكلّ صخرة من صخور هذا الجبل كانت إنساناً لم يستطع التحكّم في نظره وصوته.
هذا ما ترويه الحكاية.
إلى أن سمعتْ فتاة بمأساة الأشخاص المتصخّرين فرقّ قلبها وعزمت على تخليصهم، فتوجّهت إلى الجبل المسحور حيث تسلّطت عليها الأصوات الباكية فلم تلتفت إلى أصحابها، وتحرّشت بها العاصفة فلم تلوِها، وسارت صعوداً تتحدّى الأخطار، إلى أن بلغت قمّة الجبل حيث الشجرة الغنّاء بينبوعها الراقص وعصفورها الحكواتي.
سارع العصفور مرحِّباً بالفتاة الشجاعة وأرشدها إلى نسغ الشجرة قائلاً: خذي منه وضمِّدي الصخور فيعود أشخاصها إلى الحياة.
وهكذا كان.
هذه القصّة، وأظنُّها من الأساطير الإيطاليّة، مهداة إلى مقهوري البحث عن حلول لمصائب بلدانهم.
الشجرة أمامهم في الأعلى، وكلّما اعتزم أحدهم الوصول إلى نسغها الشافي صعقته لعنة التصخُّر. والسبب هو الوقوع في فخّ أصوات الدسّ وفحيح الخداع. أما الفتاة المنقذة، جان دارك البسيطة البطلة، فهي أمل المساكين الذين ابتلوا بقادة جبناء وزعماء عملاء. وليس حتماً أن تكون امرأة، فالأنوثة في الحكاية هي البراءة، قوّة منبعثة من أعماق المِحَن، تَسْتَخلقها الأقدار، الأقدار الرحيمة بعض الأحيان لأسباب نجهلها، تستخلقها وتجعلها خمرة ينعم بها المقهورون في سكرة عابرة تتجّدد قدرتهم بعدها على استئناف القهر.

الرأي، من يتذكّر الرأي؟

القول إن لسوريا وإيران أطماعاً بلبنان وليس للسعودية وحلفائها أطماع، ولا بالطبع لأميركا والغرب، صحيح، إذا تناسينا قضية الرأي. هل من يتذكّر الرأي؟ لقد احتلّت سوريا لبنان لكنّ اللبنانييّن ظلوا يقاومونها حتىّ عندما كان معظم زعمائهم يزحفون نحو عنجر، إلى أن أخرجوها. وأمّا إيران فمسألة الارتباط الشيعي بها مسألة أخرى قد تُحَلّ يوم تُحلّ مسألة الارتباط المسيحي بالغرب والمسلم السنّي بالعالم الإسلامي السنّي.
نعود إلى الرأي، هل من يتذكّر أن شراء الذمم جريمة عظمى؟ هل من يتذكّر أن هناك لازمة في تاريخنا تقول إن رأسمال لبنان هو حريّة المعتقد والتعبير وإن هذا هو ما يميّزه عن محيطه؟ هل مَنْ يتذكّر أن الاحتلال العسكري والاستخباراتي مرض خفيف كالرشح إذا قيس بالاحتلال الفكري الذي هو أسوأ من الموت؟ إن المال «العربي» الذي اشترى الرأي لم يشترِ كاتباً أو جريدة أو شاشة بل اشترى عقول الناس. أمّم الأمّة. عمّم الضحالة والتخلّف تحت ستار الاعتدال والترفيه. إن الشاشات «العربية» تتزاحم على عرض الأفلام الصهيونيّة التوجيه أكثر مما تتنافس الشاشات الإسرائيلية والأميركية والأوروبية. هناك ناشرون ومعلّقون كبار يكتبون دوريّاً في كبريات الصحف والمجلات العربية الأوسع انتشاراً لم أقرأ لهم كلمة نقد واحدة ضدّ السعودية والكويت ـــ على سبيل المثال ـــ منذ نصف قرن. إلّا يوم كانوا لا يزالون في طور ابتزاز أهل النفط. وإذا عرفنا أن الكثيرين من هؤلاء «الأحرار» يتحاشون كذلك الإتيان على ذكر، مجرد ذكر سوريا في مقالاتهم (إلا من باب «الانحياز» لها ضدّ إسرائيل، ما هذا) لجاز لنا التساؤل عمّ يتبقى لهؤلاء المعلّقين أن يكتبوا.
هنا نفهم أحد الأسباب (النفسيّة على الأرجح) لـ«تعويض» هؤلاء بـ«الانتقام» من أنفسهم، عَبْر التجرؤ على الموضوع الأضعف. الماروني يشتم مارونيّته والفلسطيني حماسه أو فتحه و«العمومي» عموم المستضعفين من الذين لا مال عندهم يهدونه ولا مسدسات يروّعون بها الأقلام.

عينا المحكوم
الأّول: الحياة الثانية ما هي غير بصيص الأمل المتبقّي أو المتولّد في عَينَي المحكوم.
الثاني: لا حياة بعد الموت لمن لا يأمل بها؟
الأّول: لا أعرف ماذا بعد الموت. قد أعرف فقط ما يودّع به الذاهبُ الدنيا إذ هو ينتقل.
الثاني: كما تؤمنون يكون؟
الأّول: يكون بالأخصّ للباقين أحياء، يغذّي أفكارهم ويدغدغ أمانيهم. المنتقلون يكادون لا يلمحون بصيصاً (أو عتمة) حتى يبرحوا إلى المجهول.
الثاني: عيون الباقين تَبْني على ما ظنَّتْ أن عيون المنتقلين رأته؟
الأّول: أو ما هو بمثابة العيون. الإنسان، في تلك اللحظة، يَصْنَع آخرته.
الثاني: وكلّ ما سَبَق؟
الأّول: «خبزٌ وحشيش وقمر».

مفاجأتان شخصيّتان

حمل لي عام 2007 مفاجأتين لم أعرف كيف أتعامل معهما: فإن كتبتُ عنهما ارتكبتُ النرجسيّة المباشرة وإن أغفلتهما ارتكبتُ قلّة الصدق فضلاً عن قلّة الذوق.
الأولى كتاب عنّي بالفرنسية وضعته الأديبة والباحثة المغربيّة دنيا أبو رشيد باديني ونالت عليه، بعد سنوات من الدراسة والتنقيب والترجمة والتنقّل بين فرنسا ولبنان، شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون. وعنوانه «وجه من الحداثة الشعريّة اللبنانيةّ» نشرته جامعة القديس يوسف في بيروت، بدعم من مركز «اينالكو» للأبحاث الشرق الأوسطية، وفي إطار سلسلة «ينابيع ـ أهداف» التي يشرف عليها البروفسوران هنري عويس وجرجورة حردان، مع مقدمة مكثّفة ومُرشِدة للدكتور عويس بعنوان «شَغَف، شاعر».
الكتاب الثاني أصدرته دار الساقي بعنوان «قصيدة النثر وإنتاج الدلالة: أنسي الحاج نموذجاً» للشاعر والناقد السوري الدكتور عبد الكريم حسن، ضمن سلسلة «الفكر النقدي» التي يشرف عليها ويحرّرها الدكتور كمال أبو ديب أستاذ كرسي الدراسات العربية في جامعة لندن.
على مدى الأشهر الماضية كتبتُ بضع محاولات حول كلٍّ من الكتابين ومزّقتها يقيناً منّي بشدّة وطأة الترويج الذاتي على القارئ المُتْخم أصلاً بكتاباتنا الذاتية، ولو تزيَّتْ تارةً بالسياسة وطوراً بالتأمّل. لذلك جئت هنا أكتفي بالتنويه، مع الاعتذار ممن لا يعنيهم الأمر، ومع عميق الامتنان للصديقة الحبيبة والباحثة المثاليّة دنيا باديني التي وضعت بكتابها هذا أوفى وأدقّ وأوسع بحث في مسيرتي الكتابيّة منذ كنت في المراهقة نابشة عَبْر حلّها وترحالها المضنيين نصوصاً لي عديدة، بين ترجمة وأقصوصة ومقال وكتابة شعريّة، لا وجود لها في مكتبتي وبعضها امَّحت ذاكرته تماماً من رأسي.
لقد أعادت دنيا باديني بهذا الكتاب تجميع أجزائي المبعثرة ونفخت فيها الحياة بانحناءة شموليّة يحدوها التزام صارم بالمعرفة، حتّى أصغر الحذافير، والتنوير عبر ثلاثة مصابيح: استحضار المراحل التاريخية، التحليل (تحليل حتىّ الإهداءات التي استهللتُ بها مجموعاتي الشعرية)، واستخلاص النتائج.
قلت سأكتفي بالتنويه وها أنا أنزلق إلى التفصيل. كلمة أخيرة: فوق كلّ شيء يُشعرني جهد دنيا باديني بعدم استحقاقي، وكان تكريمان من جامعة القديس يوسف في بيروت ومن معهد العالم العربي في باريس قد وضعاني في شعور مماثل، واهتمام علاّمة كالأديب الفرنسي ساران الكسندريان الذي ـــ وعلى غير معرفة ـــ جاء من باريس ليشارك بمحاضرة عن شعري في احتفال اليسوعية، انطلاقاً من قراءته لأنطولوجيا المختارات المنقولة إلى الفرنسية والتي أشرف عليها عبد القادر الجنابي ونشرتها دار «أكت ـــ سود» قبل أعوام ـــ اهتمام أديب كبير كالكسندريان، قد أغرقتني ثلاثتها في خجل جعلني أغوص في مقعدي متمنياً الاختفاء. وشيء مثل ذلك عانيته ليلة السهرة الشعرية التي استضافتها نضال الأشقر في بدايات «مسرح المدينة».
شعور بعدم الاستحقاق كلّما أولاني ناقد أو شاعر أو فنّان اهتماماً يتجاوز انشغالي باللحظة الحاضرة.
يقابله شعور بالظلم يرافقه انطواء وانزواء أو إمعان في تهديم الذات كلّما واجهتُ كراهية.
لا أحد يعرف أين يرتاح اليتيم.

الكتاب الثاني مفاجأة تامة، لأن الأول كنت مواكباً له منذ نشوء الفكرة. لقد وقعت عيناي على غلاف «قصيدة النثر وإنتاج الدلالة» بعد صدوره وكانت أول مرة آخذ فيها علماً بالكتاب. وهو انكباب لغوي ــ نفسي ــ ثقافي على مختارات من دواوين أربعة لي أولّها «لن» ورابعها «الوليمة». انكباب مَن كان «لا يعرف شيئاً عن هذا العالم» كما يقول الدكتور حسن في المقدمة، وبات رائده في البحث «الرغبة العميقة في الفهم والاستقصاء، والتوق الملحّ إلى استكناه المحيط، وسبر القاع (...) من أجل الإصغاء، أو إعادة الإصغاء إلى همس العالم في تشكّله الأول».
لم أحظَ بشرف معرفتك شخصياً يا عزيزي عبد الكريم، وفي ظروف عيشي الغريبة العجيبة ليس هذا بمفاجئ، فأصحابي القدامى إلى تضاؤل منذ أعوام، فكيف لي بالتعرف إلى جدد ونظام حياتي عكس السير وعكس الوقوف وعكس الاستراحة بينهما. المفاجأة أنك أنت أردت إلى هذا الحدّ أن تَعْرفني. سلوك مجّاني كهذا الكتاب مخالفة صارخة لشرائع العلاقات المتحكّمة في الأوساط الأدبية اللبنانية والعربية والأجنبية.
ما زلت أقرأ في كتابك وأعيد القراءة. حيناً أجدكَ ولا أجدني، فينشرح فيّ غرور الحريص على انغلاقه، وحيناً أجدني أفضل مما أنا، وأحياناً أجدني مثلما تمنيّت أن يُعْثَر عليّ، بعدما حسبتُ أن أثري قد ضاع واندثر بين الرمال.