بيار أبي صعبمنذ بداياتها المهنيّة، بدت زينة معاصري منشغلة بالجانب النظري لفنّ الغرافيك ديزاين، أو التصميم الفنّي، إلى جانب انخراطها الكامل في الممارسة الإبداعيّة. وراحت الفنانة والأكاديميّة اللبنانيّة الشابة (أستاذة مساعدة في قسم التصميم الفني ــــ الجامعة الأميركيّة في بيروت) توجّه اهتماماتها وأبحاثها صوب بلورة منهج نقدي في التعاطي مع “حرفة” التصميم الفنّي التي تقوم على روافد متعددة: تقنيّة وجماليّة وثقافيّة وتجاريّة وتسويقيّة و... إيديولوجيّة. أما في تصميماتها، من مطبوعات ومنشورات وبروشورات وملصقات وبطاقات بريديّة ومشاريع مختلفة، فتعاملت معاصري براديكاليّة مع الشكل واللغة البصريّة. فعلت ذلك نتيجة وعي مسبق للخطاب الفكري (السياسي) الذي يختبئ حكماً خلف أي محاولة لصياغة الرسالة الإعلانيّة، أو البروباغاندا، مهما كانت بريئة أو ترفيهيّة أو محايدة...
الملصق عموماً، كان في صلب اهتماماتها. وذات يوم قادتها أبحاثها إلى الملصق الحزبي والسياسي في فترة الحرب الأهليّة اللبنانيّة، لتجد فيه مرآة أمينة لواقع سياسي وفكري واجتماعي وثقافي ما زال متأجّجاً إلى اليوم، بتعقيداته ونزاعاته. هكذا وجدت زينة معاصري، من حيث لم تكن تتوقّع ربّما، فرصة مؤاتية للعودة إلى سنوات الحرب، هذه الحقبة التاريخيّة المشوّشة والمعقدة بالنسبة إلى أبناء جيلها. راحت تبحث عن الملصقات، تصنّفها وتدرسها، كوثيقة أوّلاً، لكن أيضاً وأساساً كعمل فنّي حكماً، له أدواته وأساليبه ومفرداته الجماليّة المختلفة. وجدت نفسها تدريجاً تعيد امتلاك جزء حاسم من تلك الذاكرة الممنوعة والمغيّبة تحت وطأة آلة إيديولوجيّة تروّج لسلام قسريّ وسطحي وعاجل.
تفرّغت معاصري للبحث، بمنحة من “مجلس بحوث” الجامعة الأميركيّة في مرحلة أولى، فوجدت نفسها تقوم بعمل تأريخي: إعادة قراءة الحرب الأهليّة من خلال الملصق السياسي، ونقدي: دراسة التجليات البصريّة والغرافيكيّة لأشكال النزاع. خمس سنوات من الجهد الاستقصائي والتوثيقي والتحليلي، قادتها إلى أرشيف معظم التنظيمات والأحزاب اللبنانيّة (بلغ عددها الثلاثين)، وبعض المجموعات الخاصة. رصيد المشروع بلغ اليوم قرابة ٧٠٠ ملصق، قامت بجمعها وتصنيفها ونقلها رقميّاً... وكانت نتيجة الرحلة كتاباً بعنوان “علامات النزاع”، سيصدر قريباً عن دار I.B. Tauris البريطانيّة بالإنكليزيّة، ثم بالعربيّة لاحقاً من بيروت.
وفي الوقت نفسه، كان يشغلها هاجس آخر: كيفيّة توظيف تلك الملصقات التي تراكمت عندها في فضاء عام، يتيح حالة تماس مباشر، بتأثير المسافة الزمنيّة والنقديّة، بين المُشاهد والملصق. هنا بدأ الجزء الآخر من المشروع الذي اشتغلت عليه مع المصمّمة الغرافيكيّة عليا كرامي، وأنتجته “أشكال ألوان ــــ الجمعيّة اللبنانيّة للفنون التشكيليّة”، بدعم من “مؤسسة هينريش بُل” الألمانيّة. إنّه معرض “ملامح النزاع ــــ الملصق السياسي في الحرب الأهليّة (١٩٧٥ ــــ ١٩٩٠)” الذي يفتتح اليوم في “بلانيت ديسكوفيري”، عشيّة الذكرى الـ 33 لاندلاع الحرب الأهليّة.
في البداية، يقترح المعرض تسلسلاً زمنياً للملصقات على أحد الجدارين، وذلك بشكل مواز لكرونولوجيا الحرب المفصّلة بالحرف الكبير على الجدار المواجه. وعلى الجدار الأوّل يتقاطع التدرّج الزمني للملصقات حسب السنوات (عموديّاً)، مع التوزّع السياسي لمختلف الأحزاب والائتلافات (أفقيّاً). وهذه السينوغرافيا التي تتيح رحلة فعليّة في الزمان (محطات الحرب) والمكان (دوائر النفوذ)، تفرض حالة “تجاور” بين ملصقات لم يكن يخطر ببال أحد أن تجتمع يوماً على جدار واحد. فهي مصمّمة (بفتح الميم) لتخاطب جماعات متحاربة، ولتتقاسم جدران المدينة (الوطن) حسب مناطق نفوذ متواجهة ومتناحرة. فإذا بنا نرى بشير الجميّل بمحاذاة موسى الصدر، وأنطون سعادة قرب داني شمعون، وراغب حرب إلى جوار حسين مروّة.
أما المقلب الآخر من المعرض، وهو الحلقة المركزيّة فيه، فيتألّف من 4 أقسام منفصلة. هنا توزّعت الملصقات، تبعاً لوظيفتها السياسيّة، على اختلاف مراحل الحرب التي صدرت فيها: تأكيد “الانتماء” إلى قضيّة أو جماعة ــــ طقوس “إحياء الذكرى” المؤسّسة (بكسر السين) في وعي الجماعة، المؤكّدة للحمتها ــــ تمجيد “الزعامة” ــــ وأخيراً الاحتفاء بـ“الشهادة”. وتوضح معاصري، أن هذا التقسيم “يرصد تعددية الخطاب السياسي، ومختلف أشكال التمثّل البصري للفكرة ذاتها، ويتيح لعبة المقارنات والمتوازيات بين شتّى الفئات السياسية”. وينتهي المعرض عند قسم الأرشيف الذي يضع بمتناول الجمهور كميّة من المنشورات والمطبوعات الصادرة عن مختلف الأحزاب، وصورة عن الصفحات الأولى لجريدتي “النهار” و“السفير” في أبرز محطات الحرب، وجهازي كمبيوتر يتيحان الاطلاع على بنك المعلومات الرقمي، والبحث في التوثيق الكامل للملصقات التي ستنتقل لاحقاً إلى موقع خاص على شبكة الإنترنت.
تتعامل معاصري مع الملصقات بصفتها وثيقة تاريخيّة، لكنّها تعيد إليها الاعتبار أيضاً كمادة فنيّة تعكس مفردات جماليّة وأساليب وأدوات وفلسفات بصريّة مختلفة، وتعبّر عن لحظة محددة في وعي الجماعة، وتجسّد صورة الذات والآخر في المخيّلة الجماعيّة.

معرض “ملامح النزاع”: حتّى أول أيّار/ مايو 2008 ـــ صالة “بلانيت ديسكوفيري”، شارع عمر الداعوق (قرب الستاركو): 01،980650




بصمات خفيّة

تكتب زينة معاصري في الكتيّب المرفق للمعرض، أنّه «يتعقّب تجليات الخطاب السياسي في اللغة البصريّة، كما أنتجتها نزاعات الحرب الأهليّة». وتوضح أن المشروع الذي يرصد الملصقات الصادرة عن مختلف الأطراف المتحاربة حتّى١٩٩٠، «ينطلق من كون تلك الملصقات تعبّر عن روايات الصراع، بقدر ما هي انعكاس للثقافة البصريّة الحديثة في العالم العربي».
وقد حرصت على تسليط الضوء على البصمات الخفيّة التي تختبئ خلف بعض الملصقات، وهي لفنّانين بارزين في الحركة التشكيليّة العربيّة، من الزميل إميل منعم الذي صمّم بعض ملصقات الحزب الشيوعي، مثله في ذلك مثل سيتا مانوكيان وبول غيراغوسيان... وصولاً إلى حلمي التوني ورفيق شرف وعمران القيسي... ويورد البيان التوضيحي للملصقات معلومات مفيدة، كالجهة الناشرة، وسنة الإصدار، واسم المصمم إذا وجد، والمجموعة التي أُخِذَ منها الملصق.