قبل أشهر، زارت آن تيريزا دي كيرسماكر وفرقتها «روزاس»، أربع عواصم عربيّة، بدعوة من مهرجان «نقاط لقاء» (فري لايسون/ مها مأمون/ طارق أبو الفتوح). وكان وقوف الكوريغراف والراقصة البلجيكيّة على خشبات دمشق وتونس والقاهرة وبيروت، لتقدّم عملين سابقين لها: «فازة» (١٩٨٢) و«ذات مرّة» (٢٠٠٢)، حدثاً ثقافياً نادراً بالنسبة إلى جمهور الرقص المعاصر ومحترفيه في العالم العربي.آن تيريزا دي كيرسماكر (١٩٦٠)، واحدة من الذين جدّدوا هذا الرقص المعاصر في الثمانينيات، وأعطوه زخماً خاصاً، من خلال ابتكارات حركيّة ومشهديّة شتّى. تلميذة موريس بيجار السابقة، احتكّت في نيويورك بالرقص الحديث وما بعد الحديث، خلال دراستها في «تيش سكول أو ذي آرتس»، قبل أن تخلق مدرستها وتبلور أسلوبها...
في خريف ٢٠٠٧، شاءت مصادفات البرمجة في Meeting Points، ألا يشاهد الجمهور اللبناني سوى عرضها الأسطوري Fase الذي يعود إلى مرحلة البدايات، والمبني على موسيقى الأميركي ستيف رايتش المينيماليّة. لكنّ الكاهنة المتمرّدة، قررت أنّها ستعود إلى المدينة الجريحة التي تذكّرها بتمزقات أخرى، هي الفلمنكيّة التي تقاوم بشدّة لعبة الانقسام الأهلي في بلدها. هكذا التقت كريستين طعمة، مديرة جمعيّة «أشكال ألوان»، واتفقت معها على المشاركة في الطبعة الرابعة من «أشغال داخليّة»، وخصوصاً أن فكرة مشاركة فرقة TG STAN (المقرّبة منها) في المهرجان اللبناني/ العالمي، كانت قد بدأت تتبلور هي الأخرى. عصفوران بحجر واحد إذاً: ترقص آن تيريزا في Nusch، عمل «تي جي ستان»، وتقدّم عرضها المنفرد Once المعروف الذي يجد اليوم، في هذه المنطقة من العالم، كل صداه ومعناه.
«ذات مرّة» سولو ضدّ الحرب الاستعماريّة، ترقصه على صوت جون بايز. ويقتصر الديكور على تيرموس قهوة وفونوغراف قديم، وأسطوانتين فينيل ٣٣ لفّة، لبايز وبوب ديلان اللذين يُعدّان من رموز أغنية الاحتجاج الأميركيّة (بروتست سونغز). تكاد دي كيرسماكر، تطلق العنان لصوت جسدها الذي يرافق الأغنيات عن قرب، كأنّها تعيد تشخيصها أمامنا. تعانق صوت جون بايز العاري إلا من غيتارها الشهير، لتدين المنطق الحربي لأميركا. ترقص الفنانة كامل أسطوانة جون بايز «إن كونسرت ــــ الجزء الثاني»، وهي حفلة حيّة تعود إلى عام ١٩٦٣. نسمع التصفيق وكل التفاصيل. تُكلّم مهندس الصوت، طالبة منه أن يرفع أو يخفض الموسيقى. إنّها أغاني مراهقتها التي تستعيد الآن، وهنا، بعد ٤٥ سنة، كلّ حيويّتها ومعناها !
«ذات مرّة»، تقول الفنّانة لدى ظهورها على الخشبة. هكذا تبدأ أولى أغنيات الألبوم. ذات مرّة كانت حرب فيتنام، وحركات الاحتجاج في الولايات المتحدة على تلك الحرب. عندما قدّمت آن تيريزا عملها للمرّة الأولى (٢٠٠٢)، كان العالم يستعدّ لفظاعات حرب العراق. تجمد الراقصة لبرهة، قبل أن تبدأ حركاتها بوتيرة متسارعة، راسمة منذ البداية بضعة جمل حركيّة، تختصر اللغة الكوريغرافية ــــ المتوتّرة والسرديّة والمقتضبة ــــ التي تميّز هذا العمل. وهو العرض المنفرد الثالث لها بعد Violin Phase (١٩٨٢) وSolo for Vincent (١٩٩٧).
تنتهي الأسطوانة على أغنية The Battle Hymn of the Republic التي تعود إلى الحروب الانفصاليّة في الولايات المتحدة... فتضع آن تيريزا على الفونوغراف أغنية أخرى، لبوب ديلان هذه المرّة، عنوانها With God On Our Side، كأنّها الردّ المباشر على ما سبق: «إذا كان الله إلى جانبنا، فسيوقف الحرب المقبلة»... «ذات مرّة»، شهادة سياسيّة ضدّ الحرب، عمل شخصي حميم سرعان ما يأخذ كل أبعاده الإنسانيّة. في بيروت التي تنتظر حرباً مقبلة.

«ذات مرّة»: مسرح المدينة، 8,30 هذا المساء
للحجز : 038428/03
www.rosas.be