بيار أبي صعببالأمس في بيروت (مسرح مونو الصغير) كنّا قرابة ثلاثين مدعوّاً حول المائدة. في الصالة الضيّقة حيث يقدّم هذا المساء العرض الثالث والأخير من أحدث أعمال فرقة tg Stan البلجيكيّة «نوش» (ضمن برنامج «أشغال داخليّة 4»). كان غروتوفسكي يضع المتفرّج على قيد أنملة من العرض، فإذا مدّ يده يكاد يلمس الممثل. كان يجعله يتلصص على عذابات «الأمير كونستان» (كالديرون)، أو يشهد كيف باع «الدكتور فاوستوس» (مارلو) روحه للشيطان. لكن المأدبة هنا مختلفة، لا علاقة لها بطقوسيّة المعلّم البولوني. أضواء النيون تسبغ جواً ودياً على الحلقة، وبيانو شوستاكوفيتش يتكفّل بالباقي. والشاب الذي يدعونا إلى الجلوس، ليس سوى أحد مؤلفَيْ العرض (مع جوديث دايفيس) وممثله فرانك فيركرويسن. يصب النبيذ في الكؤوس أمامنا: عادة أحمل نبيذي معي أينما حللت، هنا أقدّم «شاتو كفريا». تعرفونه طبعاً... ويروح يشرح بعض مميزات هذا النبيذ اللبناني، قبل أن ينتقل إلى أداء نصّه من دون سابق إنذار. تأتي امرأة عارية إلا من فستان داخلي أسود، من بين مشاهدين تصعد إلى الطاولة. إنها آن تيريزا دي كيرسماكير مجدداً (صممت الرقصات، وتتناوب عليها مع أخريات). هنا سترقص، متمددة، واقفة، راكعة... نحاول أن نجمع في تركيزنا بين مفردات الجسد، بالتواءاته وتشنّجاته، وبين الكلمات التي تتدفّق من فم الممثل الذي يحوم حولنا.
إنّها قصائد بول إيلويار إلى معشوقته ماريا بينز التي طوّبها «نوش». كانت البهلوانة عارضة بيكاسو ومان راي. وكان الشاعر السريالي ـــــ الشيوعي، قد فقد غالا بين ذراعي سلفادور دالي اللعين. يكتب شاعر المقاومة الفرنسيّة بنزق وشراهة، فلا نفرّق بين مشاعر الحبّ وعذاب الوعي المسيّس. يقول الوجع والحبّ والرغبة، يصف الكائن الضوئي الذي لوّن حياته. انبثاق الفجر، وتدافع الجماهير في مواكب أسطوريّة. نرتشف النبيذ خلسةً، تاركين تلك اللغة البسيطة تنتشلنا إلى الذروة. ذروة الحبّ، أي الغياب. تنسحب الراقصة، تتركنا مع أطيافنا وهواجسنا. يصمت الممثّل، فلا يبقى إلا الصدى. بول إيلويار مرّ من هنا. لقد كان موعداً مدهشاً مع الشعر!

8:30 ـ مسرح مونو الصغير
الحجز الزامي: 03،038428