عن قصيدة الصورة... وتلك المرأة المسكونة بالغموضنوال العلي

ديوانها الصادر حديثاً أشبه بمرثية لبلد يقاوم الموت. الشاعرة والناقدة العراقية المقيمة في عمان، كتبت القصة بهاجس شعري، قبل أن تجرؤ على نشر قصائدها. عودة إلى تلك التجربة الغنيّة التي تشاركت فيها مع الفنّان رافع الناصري

وقّعت مي مظفر أخيراً ديوانها «من تلك الأرض النائية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) في «دارة الفنون» في عمّان، على بعد أمتار من محترف تعمل فيه مع رفيق دربها التشكيلي رافع الناصري... وقد استوحى هذا الأخير من قصائدها بورتفوليو غرافيك عُرض في حفلة التوقيع.
يقضي الاثنان جلّ النهار في العمل. تستعرض مي أركان المحترف، حيث التقيناها، مشيرةً بيدها: «هنا يعمل رافع». ثم تمشي بهدوء في ممرّ صغير، فنلتقي برافع يعدّ لنا القهوة. ثم ندخل مكتبها المطلّ على وادٍ عمّاني، فتدير ظهرها للنافذة، وتبتسم: «من أين نبدأ؟».
منذ 2002، بدأت الشاعرة العراقية كتابة مجموعتها الجديدة، أي قبل اجتياح العراق بعام واحد. كانت الحرب حينها تفصح عن وجودها شيئاً فشيئاً، وبغداد آخذة في الابتعاد أيضاً. باتت الزيارات أصعب، الطيران مقطوع والطرق البرية طويلة، ولم تعد هناك طريق مباشرة تصل إلى المدينة النائية. ثم وقعت الحرب. بعد الكتابة عن الاغتراب، وجدت مظفّر نفسها تكتب عن القطيعة، وفكرة الاحتلال القاصمة، والعودة المستحيلة في هذه الظروف. وكان أن صعقت في عام 2005 بوفاة شقيقها الوحيد نمر، الذي أهدت إليه كتابها.
عن تلك الأرض التي باتت نائية أكثر مما تحتمل روح الشاعرة، تتحدث مظفّر عن هروب الفنانين كل مرة تتعرض فيها بغداد للدمار. فهل يكون في هذا شيءٌ من «حفظ النوى»: أن تهرب النخبة إلى الخارج وتكبر في المنافي؟ أم تُراها ستذوب في ثقافات أخرى؟ وما هو مصير ذاكرة هؤلاء، وخصوصاً بعد إحراق المكتبة الوطنية التي أرّخت لخمسمئة عام من الذاكرة الوطنيّة. «ربما ينبغي على كلّ مثقف أن يوثّق ذاكرته، فلا بد من جمع الوثائق من جديد».
هذا العراق ليس عراق مظفّر بالتأكيد. هناك بدأت تجربتها متخذةً من شعر السيّاب قاعدةً انطلقت منها، لكنها لم تجرؤ على نشر ديوان: «كانت قصائدي أقل قيمة من قصائد زملائي فامتنعت عن النشر». وحين ضاق بها التعبير، اتجهت إلى كتابة القصة القصيرة، ونشرت قصتها الأولى في مجلّة «الآداب» (1967). منذ ذلك الحين، عرفت مظفر أنّ الكتابة هي المشروع الذي ستكرّس له حياتها. هكذا، لجأت، بعد دراستها الأدب الإنكليزي في جامعة بغداد، إلى دراسة الأدب العربي مستعينةً ببعض الأساتذة، وغاصت بحثاً في الصورة وبنائها في الشعر الجاهلي. ثم اتّجهت إلى إمام المسجد ليعلّمها العَروض...
«الصورة في الشعر الجاهلي مرعبة، كان الشعراء يرسمون بأعينهم في القصيدة». وقصيدة مظفّر هي كذلك قصيدة الصورة، لكنّ مصدرها مختلف وإن تقاطع مع المخزون الثقافي على اختلاف مصادره. «رافع علّمني كيف أنظر، كان يخبرني كيف يحوّل الرؤية إلى عمل فني». في الستينيات، تعرفت مظفّر إلى مجموعة من الفنانين التشكيليين: رافع الناصري وضياء العزاوي ومحمد مهر الدين وغيرهم. لم تكن تعرف الكثير عن التشكيل. وحين كلّفتها مجلة «مواقف» بالكتابة في النقد الفني، شرعت بحوثها في الفن التشكيلي التي لم تتوقّف منذ ذلك الوقت.
«شعرت بتأثير الفنّ على قصيدتي، وبدأت أفهم الشعر الحديث من خلال الفن الحديث، وتشكّلت علاقتي باللوحة وفهم تقنياتها والكتابة عنها». تتذكر مظفّر أنّ صحيفة «النهار» التي كانت تعدّ يومذاك مختبراً للإبداع، نشرت لها قصّتين متتاليتين (1970). وفي العام نفسه، أصدرت «خطوات في ليل الفجر» أول مجموعاتها القصصية، ثم تلتها مجموعة أخرى «البجع» (1979) واستمرت في كتابة القصة حتى صدور «بريد الشرق» (2000).
حتى الثمانينيات، لم تكن مظفّر قد نشرت ديواناً بعد. كتبت القصة بهاجس شعري. وحين بدأ يُطلب منها إجراء مقابلات صحافية، ارتبكت. إذ لم تكن تستطيع الدفاع عن تجربتها الإبداعية، وكانت تشعر بشيء ينقصها. هكذا تهرّبت من إجراء الحوارات، وقرّرت التفكير في كيفية تطوير كتابتها وأدواتها. صدر ديوانها الأول «طائر النار» عام 1985، ثم تلاه «غزالة في الريح» و«ليليات» و«محنة الفيروز».
كناقدة فنية وباحثة متخصصة في الأدب الإنكليزي، تورّطت مي مظفّر مع السنوات في مشروع نقل المعرفة إلى الضاد. أوّل كتاب ترجمته كان بعنوان «اللوحة والرواية» (1987)، ثم أتبعته بـ«الشعر والرسم» وغيره... وأخيراً صدرت ترجمتها لكتاب إتيل عدنان «باريس عندما تتعرى».
نشأت الكاتبة في وسط نسائي بحت، بعدما فقدت والدها مبكراً. وحين شبّ شقيقها الوحيد غادر إلى لندن، فظلت برفقة والدتها التي كانت ترى أن الشعر إلهاء عن دراستها: «كتبتُ الشعر سرّاً خوفاً من أن أردع، ولم أخبر أحداً حتى تخرجت من الجامعة». ومن هذا الوسط النسائي، احتفظت بالشكل التقليدي لنظرة المرأة إلى نفسها «أحبّ المرأة المحاطة بالغموض، لأنه أكثر جمالاً من الكشف. الكثير من الكاتبات يكتبن الآن أدباً مكشوفاً، والغرب ينظر إلى هذه الكتابات نظرةً أنثروبولوجية، لا إبداعية، فتشتهر وتترجم الكتابات من هذا النوع».
ما إن تتحدث مي عن تجربتها، حتى تتداخل مع سيرة رافع الناصري، وقد مضى على زواجهما 34 عاماً: «أحب كتابة قصيدة حديثة بروح عربية. حين أقام رافع معرضاً في ألمانيا، قال النقّاد إنّ التقنية أوروبية، لكنّ الأوروبيّين لا يرسمون هكذا. وأنا بدأت ثقافتي من الجذور وصولاً إلى الأدب الحديث. حافظت على التفعيلة في قصيدتي، وكنت مهووسة بالشعر الفرنسي. عندما أنظر إلى رافع، أقول لنفسي ماذا أكون إلى جانب هذه الموهبة، هو أول من يقرأ كتابتي... وحين يصمت أعرف بأنّ عملي لا يعجبه، لقد صار الواحد منّا مرآة للآخر».


النثر تسرّب إلى «أوطان مفخّخة»

على الرغم من التزامها المبدئي بها، تتمرد مي مظفّر على قصيدة التفعيلة في ديوانها الجديد «من تلك الأرض النائية». قسمت المجموعة إلى أربعة أقسام: «أحوال الغربة والتغرب»، و«أينما تكون... سلاماً»، و«ما بين بين»، ثم «أوطان مفخخة». وسمحت للنثر بأن يتسرب قليلاً إلى قصائد القسمين الأخيرين التي تسميها «نصوصاً مفتوحة»، إذ لم تستخدم فيها أدوات قصيدة النثر.
«شايك جاهز هذا الصبح/ والخبز طازج/ لكن/ لا أعرف كيف أوصله إلى فمك المعبّأ بالأنابيب./ إنه مساؤك الأول في عنبر الأحياء والأموات/ فكيف كان المساء؟...». وإن كانت هذه أجواء القصائد كلها، بما فيها من موت وأسرّة مستشفيات ودماء، فإن المجموعة التي قدم لها صباح الناصري، أستاذ الأدب العربي في جامعة ليموج، تمكن قراءتها على مستويين متقاطعين: الشخصي العام. حتى يبدو العراق هو الآخر مريضاً على سرير وقد فارقته الحياة. «نصف منك غائب/ ونصف مستيقظ غيابك استكانة/ ويقظتك تمرد/ ولأنك هكذا صرعوك».
تقول مظفر: «فقدت شقيقي بعد الاحتلال. كان ذاكرتي. كنت أستعين به ليخبرني عن تفاصيل نسيتها. علماً بأنه كان مؤرخاً أيضاً». وبخسارته وفقد العراق، تبدو مظفّر في قصيدتها كأنها فقدت ذاكرتها مرتين، وكأن العلاقة بالماضي ولّت إلى غير رجعة. إنه كتاب الأمل المفقود: «وثقوا يديك إلى السرير/ وغيبوك... غيبوك/ ليكبحوا جماح ثورتك/ في يقظتك عذاب ممض/ وفي سباتك استكانة غريبة/ وأنا لا أملك ما أقول».
أما «أوطان مفخخة» فاحتوت على أقوى نصوص المجموعة، وإن كانت أقصر المقاطع فيها... وربما ساعدها هذا الوميض أن تكون مشحونة بلغة مجنّحة تحوم على مشاهد من الخراب والحطام النفسي للذات، والفعلي للمكان: «تحت ركام الخراب الذي كان مدينة/ والحجارة التي كانت بيتاً/ عن الأعمدة المحروقة التي كانت شجراً/ والدم اليابس الذي كان بشراً/ ابحث هناك.../ فتحت الخرائب والحجارة والتراب/ سبائك ذهب لم يلتقطها الغزاة».
ما يلفت حقاً في كتابة مظفّر، هو الوصف المتسلسل لشقاء لا يحتمل، إنها تسرد بالشعر يوميات الخسائر كأنها باتت أموراً يومية تدونها، والقارئ يتلقف التفاصيل المربكة، ويخضع في كثير من الأحيان لمبضع المشهد الحاد والمقطوع كأنفاس مكتومة: «أمك تراك كل يوم/ تجثو عند قدمك النافرة من تحت الغطاء/ تلمس بالسر جلدك الأزرق المتصلب/ تساءلت بعين الفجيعة عن أشياء لا تدركها/ كان وجهها آخر ما رأيت/ دمعت عيناك فتمزقت روحها/ في اليوم التالي/ عصبوا عينيك، وأغلقوا كل نوافذك/ لم يتركوا لها مدخلاً تلج منه سوى التسبيح».
هذا الشعر ليس آسراً ولا محلقاً ولا أخاذاً، إن مظفّر تذكّر برثائيات قديمة، إلا أن قصيدتها لا تمجد أحداً، إنها تفتقد وتنكفئ فقط، كصوت نحيب بعيد ومتقطع.