strong>هذه المرّة يهادنُ المتلقّي خالقاً مناخات متضاربة بين الألوان الأساسية وسحر البياض. ويؤكد الفنان اللبناني الشاب، في معرضه الأخير، نضجه، وانتماءه إلى الفنّ التشكيلي، مهما أبحر صوب التكنولوجيا والوسائط الجديدة
هند الصوفي
فنان مربك منذ البدايات. يعاين الزائر أعماله بحذر، فيرفضها أو يقبلها، لكنّه حتماً لا يجد مبرراً لهذا الإنفلاش وعدم الإنضباط من فنّان تاهَ عن القواعد العامة. بدأ ماريو سابا مباشرةً حيث ينتهي غيره، فصمّم في التجميع والتركيب والتشكيل لكلّ ما يلفظه المجتمع في حقباته التاريخية، وشكّل في غير المعتاد والمألوف، في ما هو نافر ومختلف. وللمختلف هنا بعد إيجابي ينبّه إلى خصوصية وفرادة. ومعرض ماريو سابا الأخير Palimpseste تأكيد على ذلك. Palimpseste هو «الطرس» أي الرق الممسوح والمكتوب عليه ثانية. «مصطلح» عتيق، جاء به سابا ليكون عنواناً للمعرض الذي أسدل عليه الستار أخيراً في جامعة «البلمند». قد لا يكون الأمر من باب التفذلك المجاني، فهذه التجربة على تواصل مع مفهوم «اليوتوبيا» و«العارض البابلي»، عبر مواضيع غاص فيها فنان مفهوميّ النزعة Conceptuel. تراه يقتحم منظومة النيو ميديا آرت (الوسائط الجديدة)، والعالم الرقمي/ التكنولوجي، داخلاً من باب الأساطير البابلية (Babylon Syndrome) والملاحم الأبدية؟ تلك الشعوب اعتادت مخاطبة الرب على قمة الجبل، فكانت الرحلة نحو السماء حيث أسرار الحياة. يحاول نمرود بناء برجه العالي ليتوحد مع الله، وربما ليتمكن أكثر من سلطته وتسلطه، أو ليترفع إلى أعلى المراتب. ذاك البرج، برج بابل يعاني من معضلة الغضب الإلهي، فتراه يهبط كلما ارتفع. إنها رحلة التوق إلى الأصول، رحلة ما زالت سائرة مع الطقوسيين الذين يتوحدون بالله عبر الرقص والموسيقى، وثائرة مع الانتحاريين حيث التوحد بالشهادة، ومثيرة مع الفنان المغامر الذي يستشرف مسبقاً هبوط كل محاولات الترفع والإرتقاء، لا محالة...
في بنائه الإفتراضي، يستعين سابا رمزياً باللغات المقروءة، الهيروغليفية والمصورة، الموجودة والمنقرضة، المسموعة والغريبة، المعروفة والمنسية. ينبش في الأوراق، يحفر في المخطوطات، يخلق منها حواراً (افتراضياً)، يقابلها طبقة تلو الأخرى، يصفها بالكولاج ويعجنها بالمواد الكيميائية ليجعل من الحروف دلالات شفافة. تتراكم هذه الإشارات لتشكل لغة الفنان، لغة بصرية جمالية عالمية... تستعير من كل قوم أجمل ما عنده لتحوله جزئيات في حضارة عالمية مقولبة. وتظل لغة التكنولوجيا لغة الإبداع مهيمنة بشكلها ومضمونها. في الواجهة دائماً تلك الأحرف اللاتينية، المرئية والظاهرة، تهيمن وتهمش الخطوط والإشارات الأخرى المدفونة في زوايا النص البصري. يضعها الفنان في الإتجاهات المقروءة أو المعاكسة، في الطول أو العرض، لا فرق، طالما أنّ المعاني لا تهم، فقط المؤثرات الخاصة الناتجة عن هذا التراكم الكمي للحروف تشكّل المكون الجمالي العالمي الذي يطمح اليه.
وكما جمع قبلاً بين المتناقضات، يجمع سابا هنا بين المعارف، دائماً للإرتفاع بالبرج... ولو أنه سيتحطم. في كل دمار، يعاود الفنان جمعه للمخلفات ويصيغها. انظروا كيف ركَب النور لقذيفة انفجرت، ألهبت الأشكال القدسية وأشعلت بأنوارها القاتلة دير مار ميمس (حرب حزيران)، ليقدم عمله «مصدرا نور مختلفين». دائماً، كان «المفهوم» حاضراً متجسداً هنا في ثنائية النور القاتل ونور الحق.
كل الألوان صالحة لخدمة «المفهوم». الأسود والأبيض، وهما أساس للتناقض، يستعمل الفنان البياض في خلفية السواد المتمثل في أشكال الركام والدمار والمدن المعلقة التي ستنهار، كما يتردد البياض من عمل إلى آخر في هذا المربع الفارغ ونظمه الدلالية الروحانية الأبعاد (الكمال و النقاء واللامرئي)...
وللتلوين الحاسوبي نكهته وإن خائبة. في هذه الحديقة، حديقة بابل الطوباوية، أشجار هي رمز لشجرة الحياة والمعرفة. يخشى الفنان هذا الإنسلاب نحو التكنولوجيا كميديا ووسيط بصري. ونراه فجأة يرتد نحو الباليت، ويغرف من العجينة اللونية، ويمدها بالريشة تاركاً آثارها على كل هذه الثرثرة اللغوية، كمن يتمرد على الأجواء الإفتراضية: هل لغة التكنولوجيا كافية لإنتاج فن أصيل؟ يتطرأ ماريو إلى صلب الإشكالية البصرية المعاصرة ويثير الأسئلة، هل فعلاً استغنى الفن عن أدواته؟ هل اكتفى بمؤثرات الكومبيوتر؟ فعلياً ليست التكنولوجيا سوى عنصر بين عناصر النيو ميديا، ولا تكفي لتشكل العمل الفني. لذلك يتهافت لخلق المناخات اللونية المتضادة بين الألوان الأساسية وسحر البياض، كمن يؤكد على انتمائه التشكيلي.
جمالية هذه المدن الضبابية المعلقة هي فعل تقنية خاصة لفنان تجريبي، والضبابية هنا متعمدة. فالفنان ذاته في ضياع، وبدوره يتعمد إرباك المشاهد واستثارته، يدعوه لطرح الأسئلة... فيضيع هذا الأخير فعلياً، يكتشف في المعرض كرة خشبية صغيرة جداً، يدَّعي الفنان أنها تمثل العالم الصغير جداً، ويزعم بثقة أنّه «هو النحات» لهذا العالم... فتسخر منه لكنّك تستمتع بخياله الجانح. في النهاية، هو اختار أن يكون فناناً يترجم قلقه بحثاً بصرياً عميقاً. أما المتوازيات والمتقابلات، فتتماشى مع مضمون هذه الأعمال: الدين هاجس دخيل في هذا المعرض، فهو يعرف الحقيقة والمغاير عنه له معرفته أيضاً. وتلك المنشآت الأربعة ــــ التي غلفها بالكلمات واللغات المعرفية ــــ هي متقابلات وعناصر صالحة لبناء البرج، برج من ورق... وكل ورقة شاهد على كل الطقوس، وكتابة لكل الأديان.
في معرضه الأخير، أثبت ماريو سابا عن نضج خطابه البصري. لم يعد صدامياً بل بدا متقرباً من الجمهور ومتصالحاً معه. عاد بنا إلى معارضه السابقة، عبر حفنة من المسامير المؤكسدة الحاضرة في هذا التركيب أو ذاك. هفوات مقصودة تستثير الناظر. والإثارة هنا ترجمة لهذا القلق التشكيلي، ولمعاناة بلغت ذروتها في ظروف مهلكة. فالمعرض هو خلاصة 5 سنوات من البحث والتجريب، كشفت عن بصريات حاملة للهم الثقافي المعاصر وإشكالياته المحلية والعالمية.