في نصّها «حكاية الشيخ أبي خليل القباني والوالي مدحت باشا العثماني»، تتطرّق دلع الرحبي إلى العلاقة بين التنوير والإبداع. وتذكّر بأنّ ألسنة النيران التي التهمت مسرح الرائد السوري، ما زالت متأججة إلى اليوم
خليل صويلح
«ما أشبه الليلة بالبارحة» هذا ما تخلص إليه دلع الرحبي في نصها المسرحي «حكاية الشيخ أبي خليل القباني والوالي مدحت باشا العثماني» (دار ممدوح عدوان ــــ دمشق). فأحوال الفرجة المسرحية لم تتغيّر كثيراً. ولعلّ ما كان يكابده أبو خليل القباني (1833 ــــ 1903)، من أجل تأصيل «المسرح» العربي، هو ما يكابده مسرحيون عرب اليوم في ظل محظورات لا تنتهي على رأسها «هل التشخيص حلال أم حرام؟».
يشير جمال سليمان في تقديمه لهذا النص المسرحي إلى أنّ العودة إلى سجالات الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، «تدهشك بمطابقتها للسجالات التي تدور رحاها إلى اليوم. كأن التاريخ لا يتحرك، وأن الأسئلة التي ظننا واهمين أنّه قد أُجيب عنها، وأضحت من الماضي، ما زالت مطروحة بقوة: هل التمثيل والغناء والرقص فحش أم فن تحتاج إليه أرواح البشر، وتحتاج إليه الحياة كي تستمر؟ أسئلة رُشقت في وجه القباني، وكان الجواب عليها نيران أحرقت مسرحه ولم تنطفئ إلى اليوم».
تستعيد دلع الرحبي ــــ وهي أول كاتبة سورية تخوض مجال التأليف للمسرح ــــ لحظةً استثنائيةً، يلتقي خلالها أبو خليل القباني الذي كان يطمح إلى تأسيس مسرح عربي يضاهي المسرح في الغرب، والوالي العثماني الإصلاحي مدحت باشا. إذ يستغرب الوالي خلال جولته الأولى في دمشق أنّ فنون الفرجة لم تتجاوز خيال الظل والحكواتي. هكذا يستدعي أبا خليل القباني الذي كان يعرض مسرحيّاته في بيت دمشقي، ويشجّعه على استئجار مسرح وتقديم عروضه للعوام... من دون أن يلتفت إلى استهجان رجال الدين لهذه «البدعة»، وعلى رأسهم الشيخ سعيد الغبرة الذي كان يدير حلقة دينية في فناء الجامع الأموي، يحرّض فيها مريديه على محاربة القباني بوصفه كافراً.
انتعش مسرح أبي خليل القباني في «خان الجمرك»، طوال فترة حكم مدحت باشا القصيرة. وأنجز مسرحيات مهمة، كان يستوحيها من السير الشعبية وحكايات ألف ليلة وليلة، إضافة إلى عشرات الموشحات والأغاني الخالدة حتى اليوم في ذاكرة الغناء العربي مثل «يا مال الشام»، و«يا طيرة طيري يا حمامة»، و«يا مسعد الصبحية».
تربط دلع الرحبي بين الإصلاح السياسي والإبداع باستلهام سيرة هذين الرجلين، فالخصوم الذين وقفوا بالمرصاد في وجه مسيرة أبي خليل القباني، كانوا هم أنفسهم مَن حاربوا التدابير الإصلاحية التي قام بها الوالي مدحت باشا. وهذا ليس من قبيل المصادفة « بل إنه تأكيد حقيقي على أنّ الإصلاح لا يتجزأ، وأنّ الفن هو وجه من وجوهه، يرقى ويزدهر بوجوده، ويتدنّى ويخبو بغيابه. وتالياً فإن أعداء الفن هم أنفسهم أعداء الإصلاح في كل زمان ومكان».
هكذا اتحد قدر الرجلين، فالمعنى الذي اكتمل بلقائهما في فترة حرجة، عاشت خلالها الشام حقبة مزدهرة، سرعان ما تم وأدها بعدما مضى الرجلان كل نحو مصيره. غادر مدحت باشا دمشق بعدما بالغ أعداؤه في الوشاية به، والتأليب عليه لدى السلطان العثماني عبد الحميد. ومثله فعل أبو خليل القباني بعدما أحرق العامة مسرحه وضيّقوا الخناق عليه، فلاذ بالفرار إلى مصر مرغماً ليكمل مسيرته التراجيدية.
وتسعى دلع الرحبي إلى مقاربة أسلوب القباني نفسه في بناء عناصر العرض، وتحاكي ذلك الأسلوب من خلال استخدام الاسكتشات المغناة، والأماكن الدمشقية التي عاش في ظلالها، كما تستخدم مقاطع من مسرحياته، وتقنية المسرح داخل المسرح، في إضاءة الظروف التي عاشها المسرحي الرائد. هذا قبل أن تغلق الدائرة على النقطة التي بدأت منها بمشهد امرأة دمشقية تعبر الحارة وحيدة، ويرجمها الصِّبية بالحجارة بتحريض من الشيخ سعيد الغبرة الذي كان يستهجن منظر امرأة وحيدة! كما يعود زمن الكراكوزية والحكواتية، كأنّ مسرح القباني كان مجرد حلم عابر، لم تتهيأ له الظروف كي يتحول إلى حقيقة ملموسة. بينما نسمع صوت حفيده نزار قباني وهو ينشد «هذي دمشق، وهذي الكأس والراح/ إني أحب وبعض الحب ذبّاح. أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي/ لسال منه عناقيد وتفاح». ثم يمتزج الصوت بأغنية «يا مال الشام». ويحدث ذلك في مقاربة حميمة للنكهة الدمشقية كما كانت في أواخر القرن التاسع عشر، من خلال رصد أحوال المقهى الشعبي مكاناً للفرجة، وأجواء الحارة الشعبية، والبيت الدمشقي، واحتجاب النساء وراء الجدران... إلى حلقات الذكر في الجامع الأموي، وحواريات بين الحكواتي وأبي خليل عن أحقية من يمتلك سيرة عنترة: الحكواتي أم المسرحي؟
سوف يستدعي هذا النص الأسئلة عينها التي طرحها المسرحي الراحل سعد الله ونوس في مسرحيته «سهرة مع أبي خليل القباني» (1973)، وإن اختلفت زاوية النظر: فشخصية مدحت باشا حاضرة بوصفها عنصراً جوهرياً في نص دلع الرحبي، للمزاوجة بين التنوير السياسي والتنوير الفني. وكان ونّوس قد ذهب إلى تأكيد الطابع الاحتفالي للعرض، باستدعاء مسرح «السامر»، وطرح فكرة التسييس والتحريض جوهراً لمفهومه المسرحي، باعتماد التوثيق التاريخي في مناوشة تلك الحقبة وفضح الصراع بين رجال المسرح ورجال الدين، نظراً لأن الفرجة المسرحية تفسد الجيل وتقوده إلى الكفر.
ألا يكفي قرن كامل للإجابة عن أسئلة رائد المسرح العربي؟ هذا السؤال تطرحه دلع الرحبي في سياق النص بأشكال مختلفة، ونحن نرى القباني يقف وحيداً في مواجهة التحديات والصعوبات التي عصفت بمسيرته الفنية في دمشق. الصورة عينها تتكرر اليوم في ظل هجمات شرسة على المثقفين باتهامات باطلة، ليس أقلّها التكفير، وتالياً فإن مأساة القباني ستظل مطروحة كاتهام لما آلت إليه أحوال الإبداع في العالم العربي.