خلال «مهرجان أصوات الشرق الجديدة» في بيروت الشهر الماضي، أصدرت شركة INCOGNITO أسطوانة جديدة تضاف إلى كتالوغها: «قصائد مغنّاة» للثنائي الدمشقي غزوان الزركلي (تأليف وبيانو) وديما أورشو (سوبرانو). كما أتيحت للجمهور البيروتي فرصة الاستماع إلى الأداء الحي من ديما وغزوان في أمسية وحيدة أُدرجت في برنامج المهرجان.حوت الأسطوانة مجموعة من القصائد العربية (بالفصحى والعامية) ملحنةً بأسلوب كلاسيكي غربي محافظ. في «قصائد مغنّاة» أيضاً، ثلاث مقطوعات للبيانو منفرداً، أعطتها عناوينها الإيقاعات (لاتينية وأوروبية) التي بُنيَت على أساسها (سالسا، تانغو وفالس). القصائد التي اختارها الفنانان السوريان هي للشعراء حسين حمزة (أنا من هون)، سميح القاسم («أحكي للعالم» التي سبق ولحّنها وغنّاها الفنان زياد الأحمديّة في ألبومه الأوّل «بالبال»)، بدر شاكر السيّاب (عصافير)، محمود درويش (عيونك)، خير الدين الزركلي (عصفورة النيربين)، سليم الزركلي (سراب) وأبو خليل القباني (ما احتيالي).
تناولت النصوص المختارة الوطن بين الانتماء والاحتلال والحرية من جهة، والحب بين عذاباته وعذوباته من جهة أخرى. أما النمط الفني والقالب الموسيقي اللذان قامت على أساسهما هذه التجربة الفنية شبه الرائدة في وطننا العربي، فتجد جذورها في أوروبا القرن التاسع عشر. إنه ما يعرف في تسميته الجرمانية الأصلية بالـ«ليدر» أي «أغنيات» (جمع كلمة «ليد» أي أغنية). بدأ هذا الفن القائم على قصيدة قصيرة تغنّى بمرافقة البيانو (أو آلات أخرى في ما ندر) في القرن الثامن عشر، ثم تتطور خلال الحقبة اللاحقة ليأخذ إجمالاً شكلاً أكثر استقلالية ويصبح سلسلة قصائد مترابطة من حيث المعنى. يتربع على مملكة هذا الشكل الموسيقي النمسوي فرانتس شوبرت (1797ـ 1828)، يليه الألماني روبرت شومان (1810ـ 1856)، في حين كان للكثير من المؤلفين تجارب متفاوتة في خجلها في هذا الحقل (شوبان، ليست، برامز، بيتهوفن، فولف...).
ليس في هذا الاستنباط لوصف هذه التجربة الفنية العربية ما هو سلبي، فالتحاق بمدارس موسيقية كبيرة وقديمة، يتخذ حكماً صفة المحافظ التي يمكن أن تكون سلبية أو إيجابية. لكن غزوان وديما لم يقعا في فخ الادّعاء. إذ أتت تجربتهما عبارةً عن محاولة تطوير الغناء العربي نحو مساحة جديدة عريقة في الغرب وغير مستهلكة في الشرق (هناك تجربة شبيهة فيها بعض الشيء من فلسطين، لريما ناصر ترزي وتانيا تماري ناصر بعنوان «أنشودات من فلسطين»).
وهذا النمط الموسيقي أصبح اليوم مختلفاً تماماً في الغرب لجهة تطور تركيبة اللحن وطرق الأداء الصوتي. وفي النظر إلى العوالم الموسيقية التي خاضها غزوان وديما في مرحلة التحصيل الأكاديمي وخلال المسيرة المهنية، يمكن اعتبار هذه التجربة حتمية فنية... وربما تكون مغامرة، لكن لا بدّ منها. إلا أنّ لديما نشاطاً فنياً موازياً مع فرقة «حوار» السورية التي تقدم مشروعاً يفتح الجاز والموسيقى الكلاسيكية على بعضهما ويطعّمهما بالموسيقى الشرقية (للفرقة ألبومان، الأول غير معنون صدر عام 2005، والثاني «تسعة أيام من العزلة، جلسة دمشق» 2007).