القدس ــ نجوان درويشلعل الجدل حول «سلطة بلدي» (إنتاج فرنسي ــــ سويسري) الفيلم الأول لنادية كامل مناسبة لتناول صورة «إسرائيل» في السينما العربية، المصرية خصوصاً. سواء جاءت كـ«تابو» مقولب سرعان ما يصبح فانتازيا نمطية، أو كسراً استعراضياً للتابو. وهي أيضاً مناسبة لتناول ظاهرة أخرى تتعلق بأثر خطاب الاستشراق على صانعي الأفلام في المنطقة العربية وتقديمهم لذواتهم بشكل ناقص تحت وهم «خطاب حضاري يقبله العالم». ووفقاً لهذا المنظومة، «يُسمح» للمخرجين العرب بتناول «الصراع العربي ــــ الإسرائيلي» مع مراعاة خطوط حمر من بينها الموقف من «إسرائيل».
وإن كانت صورة «تل أبيب» التي كانت تقتحمها الممثلة نادية الجندي عسكريّاً بين فيلم وآخر تدعو إلى التندر، فيما يصعب الإعجاب بالتصوير النمطي الساذج للشخصيّة الإسرائيلية في الدراما المصريّة أو المسلسلات الأردنية... إلا أنّ شريط نادية كامل ــــ على ما فيه من جودة كصنيع فني ــــ يدخل السذاجة من بوابتها الأوسع، أي بوابة الاستشراق! إنّه «اقتحام» آخر لتل أبيب، في «بطولة إنسانية» هذه المرة، مع والدين مسنّين (شيوعيان عملا في الصحافة المصرية) لزيارة أقارب الوالدة في إسرائيل بعد فراق خمسة عقود ونصف. (هل للأمر علاقة بفكرة اليساري التائب التي يجري تداولها في المنطقة أخيراً؟).
هذه الزيارة هي نقطة الضعف الأساسية في «سلطة بلدي»، فنياً وسياسياً. إذ تبدو خللاً في البناء الدرامي وإقحاماً مبنياً على نيّة مسبقة للقيام بالزيارة، وليس تصعيداً للحالة أو فعلاً درامياً مبرراً. وإن كانت والدة المخرجة ماري أو نائلة كامل ذات شخصية جذابة لا يمكن للمشاهد إلا أن يتعاطف معها ويحترم صدقها، وخصوصاً في النصف الأول للفيلم. إلا أن سيناريو المخرجة حرف القصة الإنسانية عن مسارها ووظّفها في سياق سياسي بائس.
تبدو نائلة كامل صادقة ومقنعة في كل حكيها عن هويتها وتجربة حياتها المركبة كابنة عائلة يهودية تحولت إلى المسيحية، ثم الإسلام بعد زواجها وحياتها في مصر، حيث عاشت في قطيعة مع فرع أسرتها الذي هاجر إلى فلسطين عند تأسيس الدولة العبرية. وتجربة العائلة في الزيجات المختلطة تسردها على مسمع طفل لمّاح هو حفيدها المولود لأب فلسطيني.
في «سلطة بلدي»، تعبر السيارة بانسيابية إلى إسرائيل، فتبدو دولة الاحتلال عادية، وأقل بشاعة مما هي في الواقع. صحيح أنّ نوعاً من الكآبة كان يسيطر على «الزيارة»، لكن ليس هناك إشارة كافية لجريمة احتلال. ولعلنا نجد في أفلام بعض المخرجين الإسرائيليين مثل آفي مغربي أو أودي ألوني نقداً للاحتلال أكثر من شريط نادية كامل.
تلقّي الفيلم وتفسيره سياسياً هو أمر مفهوم، رغم إصرار صاحبته على كونه فيلماً عائلياً وشخصياً (كأن هناك أفلاماً غير شخصية؟) في ردها على النقد الذي يتعرض له خصوصاً في مصر واتهامه بالدعوة إلى التطبيع. وهي اتهامات لا نرى فيها الطريقة المثلى في التعامل مع شريط من هذا النوع. إذ إنّ تهمة «التطبيع» في العالم العربي تتصف بقدر من التعميم يصل أحياناً حد الديماغوجية؛ ما يسهّل على «المتَّهمين» رد الاتهام وإحالاته إلى سوء فهم لمواقفهم وصولاً إلى اعتبار التهمة علامة على نقص الحريات وهيمنة الأصوليات... الأحرى أن تتم مساءلة أفلام مثل «سلطة بلدي» في سياقها الصحيح، وهو ما يمكن أن نسميه «الاستشراق البلدي»، وتحول الفنانين إلى مستشرقين في مجتمعاتهم الأصلية، وتبني مواقف معتدلة من إسرائيل (باروميتر الاعتدال). ولعل ارتفاع وتيرة القمع وتفشّي الإحباط السياسي في المجتمعات العربية هو ما يقف وراء هذا الوعي السالب. وهو الإحباط ذاته الذي يدفع صديقة للعائلة من غزة للحديث في الفيلم عن عدم جدوى خطاب مقاطعة إسرائيل. ما يبدو هنا كسراً للتابو وتحرراً تحت تأثير الإحباط؛ ليس أكثر من ارتكاس لا علاقة له بالوعي. وإن كان الوعي الإنساني الشجاع لا يمكنه أن يسقط حكاية اليهود المصريين (يبدو «سلطة بلدي» بطريقة ما عتاباً على إهمال وطنهم مصر لهم)، إلا أن الإنصات العميق لحكايات «الخواجات» في إيطاليا، وفي دولة الاحتلال، وعدم سماع شكاوى «الفلاح الفصيح» ومظلمة الإنسان العربي أمور تتعارض مع الوعي.
وإن كان يحق للمخرجة أن تنتقد الأصولية الإسلامية لدى حديثها عن أسرة تتقاطع الأديان في خلفيتها؛ فإن نقدها يظل معيوباً حين لا يشمل الأصوليات الدينية كلّها، وخصوصاً اليهودية والمسيحية. وهذا ما كان يعيبه ناقد علماني مثل إدوارد سعيد، على منتقدي «الأصولية الإسلامية» حين يغضّون النظر عن الأصوليات الأخرى...
متى سيتكلم صنّاع «أفلامنا» مع مجتمعاتهم أولاً... وإلى متى سيصنعون أفلاماً وعينهم على الآخر؟