«العمامة والقبعة»: الحملة الفرنسيّة بين استعمار ونهضة
كما في الأدب، كذلك في السياسة. إنّه نموذج المثقف المستقل والملتزم في حياته ومواقفه وإبداعه. أعلن مبكراً قطيعة مع السرد الكلاسيكي الذي طبع أبناء جيله، وأسس مفهوماً خاصاً في الرواية، تاركاً بصماته على تجارب الشباب. روايته الجديدة تستعيد القاهرة لدى سقوطها في يد بونابرت

محمد خير

كأنّ حادثة رفضه الشهيرة لجائزة الرواية العربية عام 2003، كوّنت زخماً متجدّداً في مشوار صنع الله إبراهيم. الروائي المصري الشهير الذي بات على مشارف السبعين (1939)، يكتب الآن بانتظام ودأب، كما لم يفعل طوال حياته. أصدر روايته «أمريكانلي» أو «أمري كان لي» في العام نفسه الذي قرّر فيه رفض جائزة الحكومة التي «لا تملك أيّة صدقيّة». ثم تبعها بكتابه «يوميات الواحات» الذي يضمّ هوامش تدويناته السرية في المعتقل الشهير. ولمّا أقبل عام 2007، عاد هو إلى طفولة الأربعينيات المصرية في روايته «التلصّص»، قبل أن يتحرك أبعد في التاريخ المصري، ويعود إلى نقطة التوتر التي التقت عندها ثقافتان منذ مئتي عام: بندقية الفرنسيين وسيف المماليك، المطبعة وسوق الوراقين، الفرنجة وموالي السلطان. رموز لا تنتهي اختصرها صنع الله في«العمامة والقبعة»، وهو عنوان روايته التي صدرت أخيراً عن «دار المستقبل العربي» بعدما نُشرت مسلسلةً في جريدة «الدستور» المستقلة.
لكلّ كاتب كبير قراء ومحبّون. أمّا صنع الله إبراهيم فله ـــــ إضافة إلى ما سبق ـــــ مؤيدون. في حياته وكتابته ومواقفه خطوطٌ مميّزة اكتملت عبر عشرات السنين، لترسم في الإجمال نموذجاً لصورة المثقف المستقل والملتزم، بما لذلك من ميزات وعيوب. نموذج كان من حيث المبدأ محل هجوم وتسخيف. السلطة التي لم تألُ جهداً لإدخال الجميع إلى «الحظيرة»، لم تتمكّن يوماً من احتواء هذا الصوت الحرّ. وعندما جازفت بالمحاولة، تلقّت كبرياؤها صفعةً إعلامية مؤلمة، ولم تجد الأصوات المحسوبة على السلطة سوى استراتيجيّة دفاع ضعيفة، هي وصف رفض صنع الله جائزتها بالموقف الاستعراضي. وهو اتهام لافت في ظل ثقافة رسميّة تنفق الملايين على الاستعراضات والمهرجانات. لكنّه اتهام مفهوم من مثقفين استطاعوا إقناع أنفسهم بأنّه يمكن «الإصلاح من الداخل» وروّجوا مفاهيم من عينة «الرقيب المستنير» ومن أجل «الدولة» لا من أجل «الحكومة».
لكنّ السياسة لم تتعدَّ كونها جزءاً من الموقف المستقل لصاحب «اللجنة». الكاتب الذي يعيش من أدبه فحسب، ولا يعمل لدى أي جهة، هو أكثر استقلالاً من جهة أسلوبه الروائي المميز. أسلوب جلب في بداياته سخطاً أكثر ممّا حقّق قبولاً، اعتمد في بعض أشهر رواياته على الوثائق والأرشيف الصحافي الذي دسّه بين الفصول والشخوص والأحداث، صانعاً قطيعةً شكليةً وأسلوبيةً مع أبناء جيله الآتين من منطقة السرد الكلاسيكي، ومؤسساً مفهوماً في الرواية تلقفه كثيرون من الكتّاب الشبان لاحقاً. مفهوم يقترب بالرواية من «البحث» الاجتماعي والسياسي والتاريخي.
روايات لا تشترط خبرة لدى المؤلف بأحداثها الحقيقية، أو زمنها المتخيّل، يحدّد صنع الله هدفه في زمان ومكان محددين، ثم ينطلق في عمل دؤوب ومضنٍ، يدرس كل ما يشكّل هدفه من تفصيلات زمنية واجتماعية... ثم يدخل بأبطاله وبقرّائه إلى عالم بعيد عنهم تماماً. هكذا فعل في «وردة» عندما اصطحب القارئ المصري والعربي إلى «ثورة ظفار» المغدور بها في جنوب الجزيرة العربية. وهكذا يفعل معهم اليوم في «العمامة والقبعة» عندما يعرّف القارئ المصري بأيّام منسيّة في تاريخه. في حالات أخرى التقت الرحلة الزمنية والمكانية بخبرة عاشها المؤلف، فكانت «بيروت بيروت». الحكاية التي نجحت روايةً، واختلف القراء على تفسيرها للحرب اللبنانية. كذلك كانت «أمريكانلي» التي استعاد فيها إبراهيم رحلته الأميركية بعدما ذهب إلى هناك محاضراً بدعوة من إحدى جامعات بلاد العم سام.
هكذا، أصدر صنع الله ثلاث روايات وكتاباً في خلال أربع سنوات. وللمقارنة، يمكن تذكّر الكاتب في عنفوان شبابه عندما قضى 15 عاماً كاملةً بين روايتيه الأولى «تلك الرائحة» والثالثة «اللجنة»... وبينهما كانت «نجمة أغسطس»، فإذا أضفنا إليها «ذات»، نكون قد حدّدنا الروايات الأهم في مشوار إبراهيم من جهتي الأسلوب والموضوع. إثر خروجه مع الشيوعيين من معتقلات عبد الناصر، فاجأ صنع الله الوسط الأدبي بباكورته «تلك الرائحة» (1966)، الرواية التي دفع عنوانها الأديب الكبير يحيى حقي إلى مجاملة صاحبها لأنّ «رائحتها الجميلة عبقت المكان»... لكنّه ما إن قرأها حتى شنّ عليها هجوماً عنيفاً أسهم في منع بعض مشاهدها، فلم تنشر كاملة إلا بعد 20 عاماً، استطاعت بعدها سوق النشر أن «تحتمل» ما في الرواية من مشاهد جنسية «قبيحة» وممارسات «مقرفة» على حد قول معارضي الرواية آنذاك.
لكنّ الصدمة الأهم في «تلك الرائحة» كانت صدمةً جماليّة، باشر خلالها صنع الله أسلوبه المميز: الجمل القصيرة المضارعة الباترة... العبارات التلغرافية التي تحمل في حد ذاتها شحنةً، تتوالد من تتالي الكلمات المحايدة، والمسافات القصيرة بين الفواصل والنقاط... أسلوب استوحاه من الملاحظات التي كان يسجّلها سريعاً على الأوراق المهرّبة في المعتقل: قرأ الملاحظات كاملةً يوماً فاستشعر تلك الشحنة، ثم أعاد إنتاجها في قصصه التي سحرت القراء.
هكذا تابع مغامراته الأسلوبية في أعماله التالية. في «نجمة أغسطس» (1974)، كتب رواية عن رحلة بناء السد العالي، مستخدماً تقنية روائية يضفّر بها الأحداث، بنفس ترتيب وتداخل مواد جسم السدّ نفسه. في «اللجنة» (1981) التي يراها بعضهم أهم أعماله، دخل عالم الشركات الكبرى، وهو عالم دخله مراراً في أعماله التالية. ويمكن اعتبار «اللجنة» هجاءً روائياً لشركة «كوكا كولا» لكونها نموذجاً للشركات عابرة القارات. لكنّ الرواية الصغيرة تحمل بالتأكيد ما هو أبعد بكثير. وعلى صعيد الأسلوب تحمل بدايات الأسلوب المتهكم الساخر الذي ازدهر في «ذات» (1992). هنا يضرب صنع الله ضربته الموضوعية الأهم، متناولاً بسخريته السوداء مواضع الوجع في بنيان الطبقة الوسطى المصرية، الهاربة من وطأة قلة الحيلة إلى الرثاء الذاتي وبوادر المزاج السلفي.
الرواية لدى كل الروائيين الكبار عمل مضن، لكنّها عند صنع الله إبراهيم تتجاوز ذلك إلى كونها بيان احتجاج وإثبات موقف. والأهم أنّ ذلك لم ينتقص أبداً من القوّة الفنيّة لأعماله.


نابليون بونابارت في الربوع المصريّة

«بالأمس ذاع خبر هزيمة مراد بك في إنبابة (...) أغلقت الدكاكين والأسواق. اتّجه الجميع لبر بولاق لينضموا إلى إبراهيم بك الذي حشد مماليكه لملاقاة الفرنسيين، توزع أبناء الطوائف بين المساجد والخرابات. نصبوا خياماً لإقامتهم ومبيتهم. تطوع البعض للإنفاق على الآخر. جهّز التجار جماعات من المغاربة أو الشوام بالسلاح والأكل. لم يفد هذا كله بشيء، فسرعان ما انهزم إبراهيم بك وولى هارباً. وبدأت رحلة العودة إلى المدينة، ورددت مع الصائحين: يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف».
بهذه الأجواء يدخل بنا صنع الله إبراهيم عالم روايته الجديدة «العمامة والقبعة» (دار المستقبل العربي)، القاهرة تسقط في يد جنود الحملة الفرنسية، رجال نابليون بونابرت يفاجئون مصر المملوكية بأحدث ما وصلت إليه الحضارة الأوروبية، وتأتي المطابع على صهوة المدافع. بطل الرواية شاب متعلّم هو أحد تابعي الشيخ عبد الرحمن الجبرتي (1756 ــــــ 1825) أشهر المؤرّخين المصريين، في عصر الاضمحلال المملوكي العثماني، عندما كان المسدس «غدارة»، ومنطقة امبابة «انبابة»، وأسواق القاهرة يعرض فيها العبيد والجواري، من بينهم جعفر الذي شمت بالأميرين اللذين «جمعت بينهما الهزيمة». أبناء المغرب والشام يدرسون في الأزهر ويسكنون حواريه. عالم كامل محته صدمة الحضارة، ودماء أغرقت القاهرة كنتيجة منطقية لمواجهة المدفع بالنبابيت والعصي.
تفاصيل دقيقة وبانوراما كاملة وكثير من الإسقاطات، ومصر في تاريخها كأنها بلد آخر. تنسحب دقة الكتاب على تصميم الغلاف (المصمم محيي الدين اللباد). الحرفان اللذان طبع بهما عنوان الرواية واسم المؤلف محفوظان في المطبعة الوطنية في باريس، وهما من تصميم سفير البندقية السابق لدى تركيا وسبكه... وقد جرى استعمالهما في طبع بيانات نابليون، وأوامره إلى المصريّين إبّان الحملة الفرنسيّة...