strong>حسين السكافللمرة الأولى، يلتقي التلميذ النجيب بأستاذه الذي طالما تأثّر به وتحدّث عنه وكتب، بل حاكاه في أعمال لا ينقصها شغف الدراسة وعمقها ولذة الاكتشاف. هذا اللقاء حدث أخيراً بفضل جهود النقّاد القائمين على متحف «لويزيانا للفن الحديث» في الدنمارك، حيث افتتح معرض مشترك يستمر حتى حزيران (يونيو) للرسّام الفرنسي بول سيزان (1839ــــ 1906) والسويسري ألبرتو جياكوميتي (1901ــــ 1966). ويستند المشروع إلى فكرة إبراز علاقة التأثّر بين أعمال جياكوميتي وسيزان. وكان الأوّل في الخامسة عند رحيل المعلّم الذي ترك أثراً واضحاً على عدد من الفنانين المهمّين في النصف الأوّل من القرن العشرين، لعلّ أبرزهم جياكوميتي.
المعرض ثمرة أربع سنوات من العمل والتحضير لجمع الأعمال من مختلف المتاحف العالمية. ومتحف لويزيانا هو المكان الأمثل لاستقبال جياكوميتي، لكونه من أهم المتاحف العالمية التي تحتفظ بالعديد من أعماله في مجموعة مقتنياتها الخاصة. فكرة المعرض هي وضع أعمال جياكوميتي في مواجهة اللوحات التي تحاكيها لسيزان. وهناك ثلاثة معارض في الحقيقة: فالقاعة الأولى من المتحف خُصّصت لسيزان، الثانية لجياكوميتي، وصولاً إلى القاعة الثالثة التي جمعت أعمال الفنانين بصورة معرض مشترك. هكذا تمّت هذه المواجهة النادرة عالمياً بين فنانين كرّسا حياتهما للفن والتجريب والدراسة والمشاكسات. حتى الصراعات التي خاضها كلّ منهما في حياته، كانت تدور في فلك الفن. وضم المعرض ستين عملاً لسيزان مقابل 110 أعمال لجياكوميتي تتوزّع بين الرسم والنحت.
لا يختلف جياكوميتي عن أغلب فناني القرن العشرين من ناحية الاهتمام بأعمال سيزان وأفكاره. في سلسلة أعمال نحتية نفذها عام 1956 بعنوان «امرأة من فينيسيا» تألفت من خمس نساء عاريات في حالة وقوف رشيقة، هناك محاكاة للوحة سيزان «المستحمّات» (زيت على القماش ــــ 1900)، وتظهر أيضاً نساء عاريات في مكان كثيف الأشجار من دون ظهور البحيرة، مكان الاستحمام. وفي لوحة «تفاحة على الخزانة» ( زيت على القماش ـــــ 72 × 75 سنتم)، نلاحظ أنّ جياكوميتي استعار شكل الخزانة بدرجها، وكثيراً ما ظهرت في أعمال سيزان التي اهتمت بتصوير الطبيعة الصامتة. كذلك يلفتنا عمله النحتي «رأس على عمود» (1947) يحاكي لوحة سيزان الزيتية «هرم الجماجم» التي تظهر صراعاً وغلبة وخسارة بين الجماجم. أمر مثير حقاً، وإشارة لا تخلو من المأساة. إذ تظهر صراع الإنسان مع أبناء جلدته في واقع أزلي، يبدو متأصّلاً داخل جينات الإنسان عبر التاريخ، أو إشارة إلى بقاء مخلّفات الصراعات حتى بعد موت مسبّبيها. الجمجمة البيضاء التي تعتلي الهرم هي الوحيدة التي تمتلك الأسنان، وتظهر كأنها تصرخ بنشوة الانتصار، بينما الجماجم الباقية تظهر أنين الألم والانكسار. أما لوحة «طبيعة صامتة مع تفاحات»، فتظهر لنا سبع تفاحات، تماماً كما في لوحة سيزان «سبع تفاحات وعصارة لون واحدة» وهناك أيضاً أعمال أخرى تحمل الفكرة نفسها.
كثيراً ما أطلق سيزان لمخيلته العنان، ليستعير أشكالاً يضيفها إلى مشاهده كأنّ ما يراه لا يشبع الفكرة التي تشغله... فالتكوين الذي صوّره في لوحاته لم يكن عفوياً، وهنا نتحدث عن تكوينات الطبيعة الصامتة التي أحدثت تغيّراً واضحاً في مسيرة الفن التشكيلي. كانت مشاهده مدروسة بعناية، فالطاولة المرتبة بشكلها العفوي، وفاكهتها وقطع القماش أو القناني، لم تكن لتستفزه كثيراً. لذا، غيّر تصميم المشهد بنفسه من خلال بعض الإضافات التي تعتمد الألوان وإظهارها. هكذا أضاف إلى مشاهده التماثيل أو الأواني أو الخلفيات التي تمنح مركز العمل سطوعاً وتألقاً. وهذا أيضاً ما حدث في تنفيذ سلسلة لوحاته الشهيرة بـ«المستحمات»، إذ استعارت مخيلة سيزان بعض موديلاته التي رسمها سابقاً ليضعها في مشاهد اللوحات، حيث تعذر عليه حينها ـــــ بسبب طبيعة المدينة المحافظة ـــــ جلب موديلات عاريات إلى المكان. أما الضوء الذي ميّز أعمال سيزان، وخصوصاً تلك التي نفّذها في الربع الأخير من حياته، فلم يكن إلا ما أوحت به مخيلته وتجاربه السابقة، حيث تطور ليصل إلى انبعاثه من داخل الأشكال المكونة لأعماله، لتصبح تلك الطريقة في التنفيذ ميزة مهمة وخصوصية متفردة تؤرخ مرحلة مهمة من حياة هذا الفنان.
في المقابل نجد أنّ جياكوميتي نحا بفن النحت إلى العفوية والبساطة، منذ أربعينيات القرن الماضي. وهذا بعدما تخطّى مرحلة تأثره بالسوريالية، وأنجز خلالها أعمالاً مهمة يقف في مقدمتها عمله البرونزي الشهير «امرأة بعنق مذبوح» (1932) الذي يعد أفضل ما يميز تلك المرحلة من حياته. كان جياكوميتي يحاكي كتله ويحاورها ليطلق أفكاره ومخيلته وعفويته لتعمل على تكوين قطعه النحتية خارج قواعد التشريح والنسب الأكاديمية. إذ إنّ العفوية والارتجال والانصياع لإلهام اللحظة هي التي كانت تحرّك أنامله في إنجاز أعماله... وهذا ما يذكّرنا بطريقة التنفيذ والنظرية العلمية والفنية التي تبناها فنانو حركة «الكوبرا» الفنية. والمفارقة أنّ «الكوبرا» انطلقت في الفترة نفسها التي تبنّى فيها جياكوميتي طريقته تلك.
تُرى هل جياكوميتي الذي امتازت أعماله بتلك الأشكال النحيلة الطويلة كأعواد البخور، معتمة كأنها ظلال لأشخاص، أثّر في جماعة الكوبرا؟ أم أنه هو من تأثر بهم؟ أم أنّ المرحلة التي شهدت ذلك التطور، كانت الملهم والعامل المشترك بين أولئك الفنانين المبدعين؟