strong>لتظاهرة العريقة التي تعدّ من أبرز المواعيد العربيّة لن تضاء مصابيحها هذا الصيف، ولا أي صيف آخر ربّما. هل أُلغي «جرش»؟ وزارة الثقافة الأردنية تتفادى الإجابة الحاسمة، وتكتفي بالقول إنّه «معلّق» حتى إشعار آخر. فيما يجري الهمس عن قرار ضمني بإغراقه لمصلحة مهرجان جديد اسمه «الأردن»
نوال العلي
يبدو أنّه ولخمسة وعشرين عاماً مضت، لم يكن «مهرجان جرش للثقافة والفنون» مهرجاناً وطنياً! فها هي وزيرة الثقافة الأردنية نانسي باكير تُعلن في تصريح لها مع صحيفة «الغد» الأردنية، أن الحديث يدور منذ وقت «حول الحاجة إلى مهرجان وطني عام». إذ إن الأردن «يستحق أن يكون له مهرجان يحمل اسمه»، يُقام كل عام في مواقع أثرية عدة، من ضمنها موقع المهرجان البائد «جرش».
هكذا أُلّفت لجنة تنسيقية عليا للمهرجان الجديد، ضمّت وزراء الثقافة والسياحة والبلديات ورئيس لجنة المحافظة على التراث في مجلس الأعيان العين عقل بلتاجي وأمين عمّان والأمين العام لوزارة الثقافة والمدير العام لهيئة تنشيط السياحة ومديرة مركز الفنون الأدائية لينا التل والمخرجة المسرحية سمر دودين. وفي غياب أيِّ دور للهيئات الثقافية والجهات الناشطة في هذا المجال ألغي «جرش» (على الأقل للدورات القليلة المقبلة)، واستُحدث «مهرجان الأردن» الذي «ستكون له صفة مختلفة» كما تقول باكير، من دون أن تحدّد ما هي هذه الصفة!
ولكن ما حدث في «جرش» العام الماضي يبدو محيِّراً، فهل يعقل لمهرجان يحتفل بيوبيله الخامس والعشرين أن يقع في سلسلة من الأخطاء، لا يسقط فيها المبتدئون في تنظيم المهرجانات؟
اللجنة العليا للمهرجان لم تتكبّد عناء البحث عن إدارة ذات دراية كافية بتنظيم حدث فني مماثل، فأسندت الإدارة بالوكالة إلى لبنى الفار. ثم جاءت فضيحة «جرش 2007» الكبرى عبر التعاقد مع شركة «الجسر الذهبي» الأردنية التي أوكلت إليها مهمة نقل سياح «عرب الـ48». وما كان من «الجسر الذهبي» إلّا أن تعاقدت مع شركة إسرائيلية لتنفيذ مهمة الحملة الإعلانية. وعلى ضوء ذلك، أطلقت «بليفون» الإسرائيلية حملة إعلانية تحت شعار «بليفون بتاخذك بنص السعر لمهرجان جرش». ما أدى إلى مقاطعة عرب 48 لـ“جرش”، وكل ذلك يحدث دون معرفة إدارة المهرجان التي ستضطر لدى علمها إلى فسخ العقد، وترك فعّالياتها من دون غطاء إعلامي! والأغرب من كل ذلك هو امتناع التلفزيون الأردني عن بثّ ليالي «جرش» الأولى أو الترويج لها بحجة قالها مدير التلفزيون آنذاك فيصل الشبول: «لا نستطيع بثّ حفلات خالية من الجمهور».
أحداث العام الماضي مثّلت القشة التي قصمت ظهر «جرش»: من ارتفاع أجور الفنانين إلى خلو المسارح تقريباً من روادها الذين كان يعوّل عليهم المهرجان كثيراً لتحقيق الربح المطلوب. وبينما تقاضت لطيفة التونسية وحدها 70 ألف دولار، بيعت من تذاكر حفلتها خمسون فقط. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حفلتي هاني شاكر ووديع الصافي مع خوسيه فرنانديز. ما دفع ببعض الفنانين (كالسوري بشار زرقان) إلى إلغاء حفلاتهم. هذا ليس كل شيء، فهاني شاكر ـــــ وبعد أمسيته ـــــ أشعل النار في وجه مديرة المهرجان لبنى الفار، محمّلاً إياها مسؤولية فشل الحفلات الأولى. أما المفاجأة الأكبر، فكانت اقتحام سمادار بيري، مراسلة الشؤون العربية المعروفة في صحيفة «يديعوت أحرونوت» لمؤتمر نانسي عجرم، لتسألها عن سر الشعبية التي تحظى بها في الأراضي الفلسطينية، وقدرتها على التأثير في الشباب العربي!
وعلى رغم ما يقال عن الخسائر التي مني بها المهرجان طيلة السنوات السابقة، وهو الذي تأسس بهدف غير ربحي، لم يتوقف إلا مرتين ترتبطان بأحداث لبنان: الأولى أثناء الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982، والثانية عام 2006 أثناء حرب تموز. فما الذي حدث الآن؟ ولماذا لا تنهض الجهات التي ستموّل المهرجان الجديد بـ“جرش” بدلاً من خوض مغامرة التأسيس المكلّفة لمهرجان حديث لم يسمع به أحد من قبل؟ وخصوصاً أن الأمل لم يُفقد من «جرش» إذا وضعت له إدارة كتلك التي أدارته في سنواته الأولى، وجعلت منه تظاهرة ثقافية حقيقية في بلد، ندرت إنتاجاته في هذا الإطار.
اليوم، تبدو المسالة كأن الجميع كان في انتظار سقوط الجمل: فالسكاكين مشحوذة ومتأهبة للانقضاض على المهرجان الذي أسّسته الملكة نور الحسين عام 1981، رئيسة اللجنة الوطنية العليا للمهرجان آنذاك. وهو حدث أدّى دوراً لا يمكن إنكاره كمؤسسة ثقافية فنية غير ربحية، أتاحت فرصة التواصل بين الإبداع العربي والعالمي، وعلى أكثر من صعيد وفي مجالات مختلفة من الحرف الشعبية الفولكلورية مروراً بالرقص والمسرح والغناء وصولاً إلى التشكيل والشعر...
وهناك بين الفنانين المحليين من رأى أن قرار الإلغاء جاء متأخراً، بزعم أن «جرش» لم يقدّم شيئاً للفنان الأردني. ولكن السؤال هنا: ماذا قدّم الفنان الأردني إلى “جرش” من عمل ينافس أو يضاهي العروض العربية والعالمية التي كانت تعرض على مسارحه؟ وماذا يتوقع هذا الفنان من المهرجان الجديد ما دامت السياسات الثقافية واحدة ولم تتغير، وما دام الفنان الأردني كذلك لم يتغير كثيراً؟ وخصوصاً أن الوجوه المشرفة على التظاهرة الوليدة تكاد تكون نفسها، تمشي على الطريق نفسه.
«جرش» بدأ من منطلق الثقافة والفن الرصين ومنح الفرص للجميع، ثم انتهى إلى معايير «المحسوبيات» والأسماء التي تكرس حضورها كل عام، وإلى تغليب الترفيهي على الثقافي. فمن أين سيبدأ «الأردن»: من حيث بدأ «جرش» أم من حيث انتهى؟
لمثل هذه الأسباب وغيرها، يجدر التساؤل إن كان يمكن لسياسة تدّعي الديموقراطية أن تدعم الحالة الثقافية، وهي قادرة على نسف تراكم ثقافي حقّقه «جرش» دام ربع قرن بقرار مجلس الوزراء الذي لم يكن مضطراً إلى مناقشة مثل هذا القرار أو تداوله في مجلس الأمة على أقلّ تقدير. وإذا كانت الحال كذلك، فأيّ حماية أو غطاء يمكن أن يوفّره مجلس الوزراء لمهرجان «الأردن» خوفاً من أن يقع في الأخطاء نفسها، وتضطر إحدى الحكومات المتعاقبة إلى إلغائه لأسباب تراها موجبة؟


أُلغي، لم يُلـغَ...وأضاف ملكاوي «أنّ المهرجان الجديد سيحمل فلسفةً جديدةً بُنيت على أساس تنظيم الفاعليات في مختلف المحافظات، منها: الزرقاء، العقبة، البتراء وغيرها»، علماً بأن «جرش» كان يقيم العديد من الفاعليات في مختلف المحافظات الأردنية. وأضاف أن العام الحالي سيكون مرحلة انتقالية (من دون أن يوضح ممّ وإلى أين). إذ سيقام «عدد من الفاعليات المحدودة تمهيداً لانطلاقة متكاملة العام المقبل».
ولدى سؤال ملكاوي أن يجيب صراحةً إن كان «جرش» سيقام أم لا، أكد أنه لن يقام هذا العام، مضيفاً: «ليس بالضرورة أن تقام المهرجانات كل عام، فقد تتوقف أحياناً. وإن «مهرجان الأردن» سيكون مظلة للجميع».
«جرش» ليس المهرجان الوحيد في الأردن، فهناك مهرجانات في أكثر من محافظة أردنية مثل «الكرك» و»الأزرق» «الرمثا»... فلماذا لم يُعلّق على أي منها، بينما توقف أقوى هذه المهرجانات وأشهرها فقط؟