قليلٌ من الـ Gospel (والبلوز) ينعش قلب الإنسان
مغنيّة الجاز الفرنسيّة التي تحلّ ضيفة على بيروت («ليبان جاز»)، تمتد جذورها إلى القارة السمراء وأرض الإغريق. الديفا السائرة على خطى إيلا فيتزجيرالد وبيلي هوليداي، تستعيد غداً في «ميوزكهول»، مع فرقتها الرباعيّة، أغنيات الألبوم الجديد الذي يحمل توقيعها كتابةً وتأليفاً وتوزيعاً

بشير صفير

حضورٌ قويّ، شخصية كريزماتية، صوتٌ استثنائي، ملامح أفريقية ــــ أوروبية، حزنٌ وأمل، ثورة على ماضٍ أليم ودعوة إلى السلام في العالم... غناءٌ جازيّ، بلوز، سول وقليلٌ من الغوسبل. إنّها المغنّية والمؤلفة الموسيقية اليونانية ــــ الغينية إليزابيت كونتومانو.
بهذا الحدث الفني يجيب كريم غطاس مؤسس «ليبان جاز» عن السؤال الذي يطرحه متتبعو برنامج مهرجانه الدائم في نهاية كل حفلة: مَن التالي؟ لم تكد تبرد النشوة التي رافقت الحفلة الماضية لهذا المهرجان الدائم والمتواصل، منتصف الشهر الماضي، وكان نجمها عازف العود والمغني الصوفي الـ«مودرن» ظافر يوسف، حتى أعلن غطاس عن لقاءٍ جديد في الـ«ميوزكهول» مع صوت نسائي من عالم الجاز ومحيطه وجذوره. ويبدو أنّ المهرجان بدأ يقصّر الفترة الفاصلة بين حدثين بعد التعثر الذي أصابه، كسائر النشاطات الثقافية والفنية في لبنان منذ أكثر من سنتين، ما يبشر بموسم حافل إذا بقي الوضع الأمني مستتباً، ولو نسبياً.
في الكثير من الأحيان لا تصحّ توقعاتنا في التكهّن بالاسم الذي سيقع عليه خيار منظمي المهرجان، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر باكتشاف مواهب ما زالت غير معروفة محلياً على نطاق واسع، على رغم معرفتنا المسبقة بأنّ الموضوع محصور بالجاز الأوروبي عموماً وبالأسماء الناشطة على الساحة الفرنسية على وجه الخصوص. وإليزابيت كونتومانو خير مثال على هذه الحقيقة التي لها دلالات كثيرة، منها إتاحة الفرصة أمام الجمهور المحلي للقاء فنانين موهوبين لم تنتشر أعمالهم في لبنان لسبب أو لآخر، حتى في أوساط المتابعين وجمهور المتذوقين.
ستكون بيروت إذاً، مساء غدٍ الأحد، على موعد مع حفلة وحيدة تقدّمها مغنية الجاز الأربعينية برفقة الرباعي الذي تتكوّن منه فرقتها الموسيقية. ومن المتوقّع أن يتمحور برنامج الأمسية إجمالاً، حول الأغنيات التي حواها ألبومها الجديد Back to my groove. في جزئه الأكبر، يحمل هذا العمل ــــ كلاماً ولحناً وتوزيعاً موسيقياً ــــ بصمات كونتومانو الآتية من تجربة الغناء في أشهر حانات الجاز في العالم، لتصدر أسطوانات حوت كلاسيكيات غنائية من عالم الجاز (والبلوز والسول). وقد أتت مساهماتها تلك، تحية تقدير لأصوات نسائية وضعت أسس هذا التراث وأثْرت أسلوب أدائها، أمثال إيلا فيتزجيرالد وبيلي هوليداي...
ولدت أليزابيت كونتومانو في فرنسا لأب غينيّ وأم يونانية، وأظهرت منذ صغرها ميلاً إلى الموسيقى وولعاً بالغناء. بدأت مسيرتها بالغناء والترحال بين أوروبا (السويد وفرنسا) والولايات المتحدة (نيويورك)، وعملت مع موسيقيين من كبار الجاز في العالم، أمثال مايك ستارن وجون سكوفيلد وتوتس تيلمانز وليون باركر وغيرهم... أصدرت ألبومها الأول عام 1999 بعنوان «معانقة» Embrace الذي نالت على أثره جائزة «دجانغو الذهبية» (نسبة لعازف الغيتار الغجري الشهير دجانغو راينهارت). وللديفا الجديدة تجربة في التمثيل والغناء مع المخرج والموسيقي ميشال لوغران (الفيلم الغنائي Masque De Lune ــــ 1998). أما شهرتها فتحققت خصوصاً في العام 2006، بعدما نالت الجائزة الموسيقية الفرنسيّة Victoire De La Musique.
تملك إليزابيت كونتومانو صوتاً مميزاً، وشخصية أدائيّة فريدة، ذات خامة جهورية تسمح لها بالوصول بسهولة إلى الطبقات المنخفضة، ويتمتّع في الوقت نفسه بطاقة كبيرة من حيث مساحته، ما يعطي لصاحبته القدرة على الغناء على الطبقات العالية أيضاً. كما تلجأ كونتومانو إلى المهارات الصوتية وتملك سيطرة استثنائية على قدراتها، ما يسمح لها بأداء الجمل الصعبة والتلوين ومنازلة آلات موسيقية أخرى في الحوارات المرتجلة، على غرار المغنية الكبيرة إيلا فيتزجيرالد. ولو أنّ نبرتها تختلف عن نبرة الجوهرة الأميركية السوداء. كما تملك إليزابيت كونتومانو قدرة آسرة على التعبير، وذلك لما تحمل في داخلها من صدق الأحاسيس أيضاً والمعاناة الشخصية. فعندما تغنّي يظهر الأسى الحقيقي الذي يختلج في أعماقها. وهذا من خصائص ألبومها الأخير الذي عادت من خلال نصوصه إلى ما عاشته في طفولتها الصعبة، من تمييز عنصري ضد السود إجمالاً جعلها تسأل عن معنى الحياة والانتماء والهوية في أغنيات مثل What A Life (يا لها من الحياة!) وWhere I'm coming from (من أين أتيت). وأيضاً في ألبومها الأخير الذي نسمعه في أداء حيّ ومباشر مساء غدٍ، تغني كونتومانو الحب والأحلام والسلام في My Love (حبّي) وPeace On Earth (السلام على الأرض)... أما موسيقياً فتطغى على هذه الأسطوانة أجواء السول والجاز، إضافة إلى القليل من موسيقى الغوسبل (ولو أنّ الفحوى غير دينية، حسب ما هو معروف في تراتيل الغوسبل القديمة). ويحضر البلوز أيضاً، وخصوصاً في ارتجالات الغيتار الكهربائي على السلم الخماسي. كما تعتمد كونتومانو الأداء الغنائي من دون كلام (فوكاليز وسكاتينغ)، فتدندن جملاً مكتوبة، كما في أغنية Black Angel (الملاك الأسود)، أو ترتجل جملاً متقطعة وسريعة في حواراتها العفوية مع الساكسوفون بشكل خاص.
لقد لاقى ألبوم Back To My Groove ترحيباً كبيراً من الصحافة العالمية وجمهور الجاز... ولو أنّه في الشكل لا يطرح تجربةً موسيقيةً مستقلة، أو يقدم نمطاً خاصاً في هذا المجال. بل يأتي التحدّي من جهة فرض توقيع خاص على مستوى الكلمة واللحن والنسيج الموسيقي والأداء الصوتي، رغم انتماء المشروع عموماً إلى مدارس وتيارات موسيقية كلاسيكية، ظننّا أن لا جديد يمكن إضافته إلى إرثها الضخم. تجدر الإشارة إلى أنّ مجموعة من الموسيقيين الأميركيين والفرنسيين شاركوا في هذا العمل، إضافة إلى كورس تولّى تأمين الخلفية الصوتية في بعض المحطات. أما في حفلة بيروت، فتختزل المرافقة الموسيقية برباعيّ أساسي قادر على تأمين خلاصة حميمة لما جاء في تسجيل الاستوديو.

إليزابيت كونتومانو : التاسعة من ليل غد الأحد ـ صالة الـ «ميوزكهول» (ستاركو) : 01،32148


في انتظار Dee Dee Bridgewater والأخريات

معظم مغنّيات الجاز والسول والبلوز والغوسبل في العالم اليوم، ورثن هذا الفن من رائداته اللواتي رحلن أو تقاعدن بعد مسيرة طويلة. وكثيرات منهنّ زرن بيروت قبل الحرب الأهلية وبعدها، ضمن المهرجانات الدولية اللبنانية أو في أمسيات مستقلة.
منذ تأسيسه عام 2004، أهدى «ليبان جاز» جمهوره من محبي الأصوات الجميلة لحظات فنية لا تنسى، من خلال دعوته كبار المغنيات في عالم الجاز المعاصر (والأنماط التي تدور في فلكه، بين جذور وروافد) لإحياء حفلات في لبنان. نذكر الديفا ليز ماكومب (2005) ومينا أغوسّي (2005 و2006) وديمي إفانز (2007). كما أعلن منظمو المهرجان منذ فترة عن حفلة مرتقبة للديفا الشهيرة دي دي بريدجووتر ما زلنا ننتظرها حتى اليوم.
لكن من هنَّ المغنيات اللواتي ينتمين إلى الفئة نفسها ويُعددْن من المرشحات للمجيء إلى لبنان في إطار أنشطة «ليبان جاز» المقبلة؟ إذا راقبنا تاريخ المهرجان واستراتيجيته المعتمدة في اختيار فنانيه، يمكن التكهن ببعض الأسماء التي تنطبق عليها المواصفات الفنية كقاسم مشترك. دي دي بريدجووتر ما زالت من الاحتمالات الطاغية. كما يمكن عرض احتمالات أخرى، مع الإشارة إلى إمكان أن يفاجئنا كريم غطاس نتيجة بحوثه المستفيضة بأسماء لا تتبادر إلى أذهاننا.
من المغنيات اللواتي يصنعن الحالة الفنية في عالم الجاز المعاصر، نذكر الكندية مادلين بيرو التي كان مقرراً أن تحلّ ضيفة في دورة ألغيت لأحد المهرجانات الصيفية، والأميركية (من أصل هندي) نورا جونز، ابنة عازف السيتار الهندي رافي شنكار، والسويدية ليزا إكدال، والفرنسية المخضرمة آن دوكرو، والأميركيتين ليز رايت وديان ريفز... إضافة إلى كاساندرا ويلسون وجاين مونهايت، وغيرهن...