هناك قناعة سائدة بأن تنامي أشكال الاتصال الحديثة وتطوّرها هو حكماً في خدمة التطوّر والتنمية والديموقراطيّة في العالم العربي... لكننا نسينا أن الأنظمة القمعيّة تستفيد بدورها من هذا التطور، لإحكام سيطرتها على «عصب الحرب»: من الجزائر إلى القاهرة... ومن Facebook إلى الموبايل مروراً بالفضائيات طبعاً
محمد خير

خبران: الأول جيّد والثاني سيئ... أولاً، أتاح تطوّر تقنيات الميديا مجالات جديدة لحركة نشطاء حقوق الإنسان. أما الخبر الثاني، السيئ بطبيعته، فهو أن هذا التطوّر نفسه قد زوّد السلطات القمعية بوسائل جديدة لإحكام السيطرة على جميع وسائل البثّ، أو كما يقول الأميركي آدم بي كوشنر في «نيوزويك»: «إن التكنولوجيا تتغير باستمرار، لكن الاستبداديين في العالم لديهم أفضلية واحدة: نشرُ الخوف... عملية سهلة، تقدم لها شبكة الإنترنت تسهيلات جمّة».
كما استقر منذ زمن بعيد في العلوم الاجتماعية: البشرية لا تتطور في خط مستقيم، هناك مسالك جانبية، وهناك فترات ركود، وهناك تراجع في كثير من الأحيان... وكما أن كثيراً من المناضلين العرب من أجل الحرية الذين ينتمون إلى أجيال الخمسينيات والستينيات، لم يتصوروا أن أنظمة الاستبداد ستظل جاثمة على أنفاس شعوبها إلى ما بعد الولوج للقرن الواحد والعشرين... فإن الذين رحّبوا بما أحدثته وسائل الاتصال الحديثة من تغيرات كاسحة، على مستوى الوعي وطبيعة التواصل الاجتماعي وقوالب الفنون وأساليب تقديم الأخبار، أولئك المرحبون تعرّضوا للخدعة نفسها. إذ تخيلوا أن التيار أقوى من أن تحاول السلطات العربية التصدي له. ولكن الأخيرة برهنت، في هذا السياق على الأقل، عن مواكبة أكيدة للعصر. وكما أن الحرب أخطر من أن تُترك للجنرالات، أدركت الأنظمة أن الإنترنت والموبايل والفضائيات أخطر من أن تُترك للإعلاميين الجدد بجماهيرهم الواسعة، فأعلنت الحرب على المحاور الثلاثة: الخلوي والفضائيات والإنترنت.

سوق الخلوي

يعدّ سوق الهاتف الخلوي أحد أكثر الأسواق ازدهاراً ونمواً في العالم العربي، وفي الوقت الذي ينمو فيه أيضاً سوق العقارات، فإن الأخير مدين بنموه إلى طفرة أسعار النفط، وهو بالتالي متركز في مناطق بعينها. أما سوق الخلوي فهو متسع على امتداد العالم العربي بغض النظر عن التفاوتات الطبقية داخل كل مجتمع على حدة، وبين كل مجتمع وآخر. في مصر مثلاً، تخطى عدد خطوط المحمول رقم الـ30 مليون خط مستخدم، إلا أن جهاز تنظيم الاتصالات أعلن فجأة أنه سيقطع الخدمة عن حوالى 3 ملايين خط بحلول تموز (يوليو) المقبل، بحجة أنها خطوط هاتف «مجهولة الهوية». وطالب رئيس الجهاز شركات المحمول العاملة في مصر بضرورة «توفير بيانات دقيقة عن المشتركين». وكان السبب المعلن على لسان المسؤول نفسه، هو التخوف من استخدام هذه الخطوط المجهولة في العمليات الإرهابية! ولكن الجمهور العربي تعوّد على أن مسؤوليه لا يختلفون عن الأميركيين في استخدام ذريعة الإرهاب لتبرير أي شيء... فهل من قبيل الصدفة أن الجزائر أقدمت قبل أسابيع على إجراء مماثل، ومنحت شركات الخلوي مهلة شهرين «لتحديد هوية جميع زبائنها في أجل أقصاه نهاية شهر نيسان (أبريل)»؟! علماً بأن السوق الجزائرية هي الثانية عربياً بعد مصر بحجم (28 مليون خط خلوي).
إن افتراض أن وراء هذه الإجراءات الأمن الجنائي فقط، هو افتراض مبالغ في حسن النية، وخصوصاً عندما تترافق هذه الخطوات مع خطوات أخرى في محوري الفضائيات والإنترنت.

هجمة مرتدّة

لقد قتلت وثيقة البث الفضائي بحثًا وجدلاً ونقاشاً في الصحف والمنتديات، وإذا استقر أغلب المتحاورين على أن الوثيقة بمثابة «هجمة مرتدّة» بلغة كرة القدم، ضدّ هجوم برامج الـ«توك شو» التي تستضيف المعارضين، وتلقي في سمع المواطن العربي انتقادات لم يتعوّد سماعها عبر الشاشات، إلا أن أسوأ المتشائمين لم يتوقع أن تأثير الوثيقة سيكون بتلك السرعة. وأسهمت أحداث مدينة المحلة المصرية في وضع الفضائيات موضع الاختبار ففشل معظمها. وأبدت البرامج الحوارية المصرية ذات الشعبية «مرونة» في تفهم الرؤية الحكومية لأحداث «التخريب». وبعض تلك البرامج تبنّى من دون مواربة الرواية الحكومية للأحداث. ولكن ما لا يقل خطورة، كان قراراً اتخذته شركة القمر الصناعي المصري «نايلسات» قبل أحداث المحلة بأيام قليلة، وهو قرار تم بموجبه إيقاف بث قناة «الحوار» الفضائية التي تبث من لندن، على خلفية انتقادات للأوضاع المصرية شهدتها بعض برامج المحطة.
لكن أحداث المحلة هددت بما هو أخطر، إذ إن مجال الإنترنت كثيراً ما عُدّ مصدر فخر السلطات المصرية، والحكومة الإلكترونية لرئيس الوزراء أحمد نظيف الذي كان وزيراً للاتصالات. وعلى رغم من أن مصر شهدت من قبل انتهاكات ضد نشطاء إنترنت، ما وضعها في «قائمة أعداء الإنترنت» التي تصدرها منظمة «مراسلون بلا حدود»، لكن كثيراً ما تميزت الإجراءات الحكومية ضد نشطاء الإنترنت بشقّين: الأوّل أنها جاءت من الجهاز الأمني حصرياً من دون تورط جهاز الاتصالات، بمعنى عمليات اعتقال لعدد من المدوّنين لا تمتد، كثيراً، إلى حجب المواقع الإلكترونية. أما الشق الثاني الذي ميّز الإجراءات الحكومية المصرية ضد النشطاء، فهو أن تلك الإجراءات كانت تمسّهم بوصفهم سياسيين أكثر منهم مدوّنين. إذ إن عمليات اعتقالهم كانت تجري، عادة، أثناء مشاركتهم في فاعليات سياسية في الشارع، وليس لمجرد التدوين في حد ذاته. ولكن الدور الذي مارسه هؤلاء من خلال موقع «فايس بوك» في الدعوة إلى إضراب 6 نيسان (أبريل)، قد غيّر قواعد اللعبة. بل إن أسهم الانتقادات الحكومية كادت تطال المواقع الإلكترونية في حد ذاتها، لا مجرد مستخدميها، ما أسهم في إشاعة أجواء تتحدث عن نية الحكومة حجب «فايسبوك». علماً بأن المصريين يعدّون من أكثر الشعوب كثافة في استخدامه، إذ نشأ الموقع بهدف التواصل الاجتماعي، فأصبح فجأة أكبر وسيلة تحريض على الاحتجاجات السياسية في مصر!


الشجعان القلائل

في تحقيق أجرته مجلة «نيوزويك»، لاحظ الصحافي آدم بي كوشنير أن ثمة «حملة قمع إلكترونية جديدة»، تمارسها الأنظمة الاستبدادية في العالم. والمقصود بكلمة «جديدة» هو أنها تتبع أساليب تختلف عن الطرق القديمة. إذ اكتشفت تلك السلطات أن أسلوب «حجب المواقع»، على سبيل المثال، غير مجد، لأنه «إما يمنع محتوى أكثر من اللازم، أو أقلّ من اللازم»، فضلاً عن إمكان تخطّي الحجب بسهولةٍ تزداد يوماً بعد يوم. كما أن تلك الأنظمة أدركت أنها لن تستطيع مراقبة كل هذه الملايين من مستخدمي الإنترنت في دول مثل الصين وإيران ومصر وزيمبابواي. لذا، فقد رأى الأمنيون أن السبيل الأجدى، هو إشاعة الخوف لدى مستخدمي الإنترنت، فليس مهماً أن يكون الشخص مراقباً فعلاًً، ولكن الأهم أن يظن أنه مراقب. هكذا، فإنه من خلال رسائل قصيرة ترسلها السلطات الصينية إلى هواتف المواطنين، تطلب منهم ضرورة احترام القانون، فإن الجميع سيقعون تحت طائلة التردد في الولوج إلى مواقع ممنوعة، كما أن ثمة «كلمات» محددة، تستطيع السلطات أن تراقب عدد مرات البحث عنها، ما يتيح لها مراقبة أولئك الشجعان القلائل الذين يبحثون عن هذه الكلمة أو ذاك الموقع. في الصين مثلاً، لا بد من أن تفكر كثيراً قبل أن تبحث عن كلمة «دلاي لاما»، وفقاً للتقرير. أما في مصر أو زيمبابواي، فلا ضرورة لكل تلك التكنولوجيا المعقدة. إذ يكفي أن يطلب منك مقهى الإنترنت بياناتك الشخصية، حتى ترتجف أصابعك على «الكيبورد»، خوفاً من أن تكتب بالخطأ عنواناً محظوراً!