عشر سنوات على رحيل صاحب «الرسم بالكلمات»

بيار أبي صعب
ترى ماذا كان ليكتب اليوم؟ حفيد عمر بن أبي ربيعة الذي أشعل الحرائق في الذوق السائد أواسط الأربعينيات. قفز فوق النظم الأخلاقيّة والقوالب الشعريّة المتعارف عليها، ليقتحم قلعة اللغة الحصينة بمفرداته المنعشة، الناضحة بأشياء الأنوثة، العبقة بالياسمين الدمشقي، المغمّسة بندى الرغبة، المستقاة من التجربة اليوميّة وتفاصيلها العابرة... وها هو بعد عشر سنوات على غيابه، يحتلّ المساحة نفسها، خارج الشعر كما يفهمه ويتذوّقه كثيرون ربّما، إنما في قلب وجدان الجماعة وذائقتها.
نزار قبّاني (٢١/٣/١٩٢٣ ـــــ ٣٠/٤/١٩٩٨) شاعر المرأة. شاعر الإباحيّة. شاعر العصيان والجرأة والبوح والغضب السياسي. أكثر من مدرسة شعريّة. إنّه حالة اجتماعيّة، وظاهرة ثقافيّة. لقد نقل المزاج العام من عصر إلى آخر، وجعل الكتابة والشعر واللغة، تتسع لأمور لم تكن ممكنة قبله. ولا بدّ من أن العرب صاروا “يحبّون” بشكل مختلف بعد نزار... بين ليلة وضحاها، مع ديوان «قالت لي السمراء» (١٩٤٤) ثم «طفولة نهد» (١٩٤٨) الذي قدّم له معلناً أن «الشعر يهزأ بالحدود»، صار شاعر الحريّة (رغماً عنها)، وشاعر المرأة (على غفلة منها)... شاعر العشق الذي أحبته النساء من المحيط إلى الخليج: كنّ يَرتحْن إلى صورتهنّ في قصيدته، ولو منمّقة ومنمّطة، مخمليّة وجوفاء... قصيدته كانت جميلة وعفويّة وساحرة، مطعّمة بالنرجسيّة، كانت مفهومة ومحكمة، قريبة من الأذن، أمينة للأحساس والرغبة، وملأى بالثمار الممنوعة.
واجه نزار منذ ديوانه الأوّل أعتى الحملات وأشرسها. كتب الشيخ علي الطنطاوي سنة ١٩٤٦ في مجلّة «الرسالة» المصريّة: «طُبعَ في دمشق كتاب صغير زاهي الغلاف ناعمه (...) فيه كلام مطبوع على صفة الشعر، يشتمل على ما يكون بين الفاسق القارح، والبغي المتمرّسة الوقحة، وصفاً واقعيّاً، لا خيال فيه لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال بل هو مدلّل، غني، عزيز على أبويه (...). وفي الكتاب تجديد في بحور العروض يختلط فيه البحر البسيط والبحر الأبيض المتوسّط، وتجديد في قواعد النحو، لأن الناس قد ملّوا رفع الفاعل ونصب المفعول به (...)».
لقد حطّم القوالب الجاهزة، وخلخل بنية الثقافة التقليديّة، قبل أن يصبح مؤسسة بدوره مع السنوات. السفير السابق الذي تفرّغ للشعر، وعاش منه ومن الشهرة التي حققها مبكراً في سمائه، صار ماركة مسجّلة، نمطاً ولغة وكليشيهات وقوالب يتبارى الجميع على محاكاتها. صار المحبّ الولهان يدسّ كلمة «سيّدتي» في كل جملة من خطابه العاشق.
نزار حالة لغويّة. في سنواته الأخيرة لم يعد مهمّاً ماذا يكتب. الكلّ يريد أن ينشر له، والكل يريد أن يحاوره، أن يسمعه يلقي على الحضور تعاويذه السحريّة... والشاعر كان يمارس غوايته الارستقراطيّة، كحسناء لعوب، جاعلاً نرجسيّته محور العالم. كتب «أبو جهل يشتري فليت ستريت» (شارع الصحافة اللندني العريق)، لكنّه بقي حتّى أيّامه الأخيرة ينشر في الصحافة السعوديّة. شاعر اللهو ومحطّم التابوهات الذي فصّل «من جلد النساء عباءة»، وبنى «أهراماً من الحلمات»... والذي قال عنه علي الجندي ذات يوم: «نزار هو الوسيم، الأنيق، والثري، ابن التاجر الدمشقي الكبير. حتى عذاب الحب لم يعرفه»... هو أيضاً شاعر الغضب السياسي، والجرح (القومي) المفتوح.
بعد النكسة كتب «الأعمال السياسيّة»، واشتهرت قصائد مثل «هوامش على دفتر النكسة» أو «حوار مع أعرابي أضاع فرسه». كما ردّد الطلاب الغاضبون في شوارع السبعينيات العربيّة قصيدته «خبز وحشيش وقمر» (١٩٥٤) لإعلان «عصيانهم»... في مرحلته الأخيرة، استعاد ذلك النفس فكتب «المهرولون» التي أوجعت النخبة السياسية والثقافيّة العربيّة. نصّه المرير اليائس «متى يعلنون وفاة العرب؟» أقام الدنيا وأقعدها: «أنا منذ خمسين عاماً،/ أراقبُ حال العربْ./ وهم يرعدون، ولا يمطرون.../ وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجون.../ وهم يعلكون جلود البلاغة عَلْكاً/ ولا يهضمون...».
ترى ماذا كان ليكتب الآن شاعر «يوميّات امرأة لامبالية» (١٩٦٨)؟ اللغة سبقته في تحررها وذاتيتها، والنساء العربيات، وصولاً إلى جيل رنا التونسي وإيمان إبراهيم، ما عدن في حاجة إلى «ناطق» باسمهنّ. «المهرولون» اتسعت رقعتهم، ولو أن التسمية اللائقة سياسياً لتحديدهم هي «المعتدلون العرب». «أبو جهل» و«أبو لهب» يتوزعان الأدوار ويمسكان زمام الأمور بيد من حديد. بيروت لم تعد ست الدنيا منذ دهر، ودمشق ياسمينها تعب من انتظار الربيع، وغرناطة أبعد من أي وقت مضى، ولندن ليس في مقاهيها زاوية صغيرة «خالية من العرب»، ونساء قصائده ما عدن يقبلن الدعوات إلى العشاء، و«مملكة الحواس» انهارت، أو تكاد...
يوم رحيل صاحب «الرسم بالكلمات» (١٩٦٦)، عارض بعض المتشددين الصلاة على جثمانه في جامع لندن، في ريجنت بارك... فيما خرقت نساء دمشق التقاليد، ورافقن الجثمان إلى المسجد خلافاً لما تقتضيه الأعراف السائدة، قبل أن يوارى الثرى في مدفن «باب الصغير» في حي الشاغور الشامي. كانت تلك التحيّة الأخيرة، نوعاً من ردّ الجميل، من قبل نساء العرب لشاعر أفنى العمر في حبّهنّ، وشذّ باسم العشق عن القواعد، وطوّع اللغة كي تتسع لخفّة الغواية ومجانيّة الرغبة. انتهر المرأة قائلاً: «ثوري، أحبّك أن تثوري...»، أرادها أن يخرجها من الخباء الجاهلي إلى الضوء الساطع، فخورة ومدلّلة ومرفّهة ولامبالية و... فاضية البال!
«بريفير» العرب قرّب الشعر من الناس، وجعله الخبز اليومي للجماهير، ولعلّه أبعده قليلاً عن الشعر أيضاً... لأن هذا الأخير يضيع قبل أن يجد طريقه إلى الأكثريّة الساحقة. واليوم بعد عشر سنوات على غيابه، ما زال لكلّ نزاره. هناك من يحبّه في السرّ، ومن يحبّه في العلن. ومن يحبّه وفاءً لمراهقة بعيدة أو شباب مبكر. بفضله قام كثيرون بخطوتهم الأولى في هذا العالم السحري، قبل أن يهجّوا بعيداً على دروب الشعر. لا أحد يمكنه أن يتبرّأ تماماً من نزار قبّاني. من منّا لا يعرف عن ظهر قلب قصيدة له على الأقلّ، بيتاً استفزازيّاً أو عنواناً مجلجلاً؟ هذا الكلام ينطبق خصوصاً على أجيال وجدت نفسها ذات مرّة مخيّرة بين عذريّة سعيد عقل الذي يقول لنا: «أبقى الأثر ما لم يزل موصداً»... ونزق نزار الذي يطلق تحذيره القاطع: «مجنونة من مرّ عهد صباها ولم تلثمِ».


سيرة
حفيد الرائد المسرحي أبي خليل القباني، أبصر النور في 21 مارس 1923 من أسرة دمشقية عريقة. فور تخرّجه عام 1945، دخل السلك الدبلوماسي متنقلاً بين العواصم، وخاصة القاهرة ولندن وبيروت، حتى استقالته عام 1966. أصدر أول دواوينه «قالت لي السمراء» عام 1944، لتبلغ أعماله على مدى نصف قرن 35 ديواناً، بينها «طفولة نهد» و«الرسم بالكلمات».
أسّس دار نشر لأعماله في بيروت باسم «منشورات نزار قباني»، وكان لبيروت موقع خاصّ في شعره، بعد دمشق مدينته طبعاً، عبّر عنه في قصيدته «يا ستّ الدنيا يا بيروت». أحدثت النكسة مفترقاً حاسماً في تجربته، إذ أخرجته من صفة «شاعر المرأة والحبّ» لتُدخله معترك السياسة. وقد أثارت قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» عاصفةً في العالم العربي، وصلت حدّ منع أشعاره في وسائل الإعلام. عرف مآسي شخصية كثيرة، بدءاً من وفاة زوجته بلقيس الراوي عام وصولاً إلى وفاة ابنه توفيق الذي رثاه في قصيدته «الأمير الخرافي توفيق قباني».
عاش السنوات الأخيرة من حياته وحيداً في شقته في لندن يثير المعارك بقصائده السياسية مثل «متى يعلنون وفاة العرب» و«أم كلثوم على قائمة التطبيع»، حتى رحيله في 30 أبريل 1998
www.nizarq.com


مثل فيكتور هوغو الذي فجع بفقدان ابنته ليوبولدين فكرّس لها بعض أجمل قصائده، فإن اسم نزار اقترن بـ... بلقيس. بلقيس الراوي (العراقيّة الجنسيّة)، تزوجها الشاعر عام 1969 بعد خروجه من مأساة وفاة زوجته الأولى زهرة. لكنّ القدر انتزعها منه في بيروت عام 1982، في حادثة انفجار السفارة العراقية. يومها حمّل الشاعر المجروح القادة العرب مسؤولية وفاتها في قصيدة بعنوان «بلقيس» جاء فيها: «بلقيس../ إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب/ ويأكل لحمنا عرب/ ويبقر بطننا عرب/ ويفتح قبرنا عرب/ فكيف نفر من هذا القضاء؟/ فالخنجر العربي... ليس يقيم فرقاً/ بين أعناق الرجال.. وبين أعناق النساء...!».