أيّام ونحن نعيش عنف تلك الصورة التي بدأنا بها أسبوعنا. ملتح جلف يظهر على شاشة ريما كركي في استوديو «للنشر» على «الجديد» مساء الاثنين الماضي. يريد أن يُملي شروطه. يقول إنّه اتفق مع أحد ممثلي الإنتاج على أن يُترك وشأنه على الهواء، كي يتحدّث وحده، كما يشاء، وبقدر ما يشاء، ليقول ما يشاء. يا سلام! فنّ الحوار على أصوله يعني. يريد أن يلقي خطبة عصماء على مئات آلاف المشاهدين، من دون أن يقاطعه أحد، أو يعارضه أحد ويسلّط الضوء على مغالطاته وتعميماته.
الرجل من هواة المونولوغات إذاً، يريد أن يلعب «نمرته» ويمضي، أن «يتشاطر» على المحطة والإعلاميّة والمشاهدين. أن «يأكل الطعم، ويوسّخ على الصنّارة». نحن هنا فقط لنستمع ونستمتع، لنتلقّى بسلبية وخضوع مطلقين، كلاماً مسموماً، ملؤه التلفيق والتحريف الفكري والإيديولوجي. أما قواعد اللعبة المتعارف عليها، التي تترك للمذيع أن يقاطع، ويسأل، ويناقض… فممنوعة في عرف «تاجر الهيكل» الذي يحمل في كلامه الموت والانحطاط والتخلّف.
الرجل الهستيري يتحدّث من لندن، عبر الأقمار الصناعيّة، حاشراً رأسه الذي أشبه ما يكون بقنبلة موقوتة، في قبّعة صائد غزلان أسكُتلندي، أو محارب من الفايكينغ. ورغم المسافة، فقد فرض الحجاب على ريما. «أخفي هذا الشعر الذي لا أقوى على رؤيته»، كأننا به يقول، هو صاحب الوجه العابس، واللغة الميتة، والصوت العنيف، الإلغائي، القمعي، الذي يجرح الأذن، ويخدش الحواس، ويلوّث الهواء من حولنا. كأيّ طرطوف يدّعي الدين، فيما هو دجّال وصاحب ورع كاذب، ألزم مقدِّمة البرنامج بأن تضع حجاباً للتوكيد على تقاوته ونقاوته و«تديّنه». بدا المشهد عبثياً. وحدها مع «الغلادياتور» جوزيف أبو فاضل في الاستُديو، جلست ريما تتكلّم مع شاشة. بدت بمنديلها الأبيض مثل مريم المجدليّة، شخصيّة مسرحيّة أو سينمائيّة. جعلها الحجاب أكثر جمالاً، بانت عيناها تقدحان شرراً، كأنّنا بها استحالت أكثر قدرة على الاستفزاز والإقناع والمواجهة.
الحجاب. ليست المرّة الأولى التي تفعل ذلك. ولم تنفع انتقادات الكثيرين، ولومنا، وشرحنا أن هذا الفعل الرمزي في حضرة شذّاذ الآفاق، يشجّع المنطق التكفيري، ولا يخدم الدين، أو يحترم المقامات. كل مرّة تعدنا بأنّها الأخيرة، وتعتذر وتبرّر على الهواء، ثم تعاود الكَرّة. لم يعد الحجاب هنا عنوان حشمة واحترام وتديّن، بل بات أكسسواراً رمزياً هو القرينة على خضوع الإعلاميّة - المرأة (لو كانت رجلاً لما طُلب منها شيء)، وبرنامجها، ومحطّتها، إلى ابتزاز أصحاب الورع الكاذب. أصلاً ما الحاجة إلى هذا الكم المخيف من رجال الدين ومدّعي الدين والمسوخ والتكفيريين في المحطّات التلفزيونيّة على اختلافها؟ ما هذه الصفقات الشيطانيّة التي تمنح كل برنامج (أو محطة)، شرعيّته ورواجه، مقابل حفنة من المشاهدين الذين يحبّون التلصص، و«يتهيّجون» على المسوخ؟ إنّه الاستعراض الهاذي لا يرحم أحداً، إنّما تبقى ضحيّته الأولى هذه السيّدة الجالسة على «كرسي الخطر».
لكن الإعلاميّة التي تقاوم بجسدها وعقلها وأعصابها وحواسها، هذا الفخ الاستهلاكي القاتل ـ فتنجح تارةً وتخفق طوراً ـ تماماً كأبطال التراجيديا الذين نتحمّس لهم مع أننا نعرف مصيرهم سلفاً، لن تسكت هذه المرّة. ريما قرّرت ليلة الاثنين أن تقول كفى. «انتفخ الضرف!». «الشيخ هاني سباعي صديق أيمن الظواهري» (تشرّفنا)، يعتبر بفاشيّته وذكوريّته الفجّة أن كل شيء له متاح ومسموح. يصعب أن نفهم لماذا جيء به للحديث عن تجنيد «النصارى» (اقرأوا «الكفّار» طبعاً) في داعشتان. لكنّ المذيعة، لسوء حظّه، ضاقت ذرعاً بالمهرّجين الدمويين على أنواعهم. قرر «الشيخ كذا صديق الظواهري» كي يشرح لنا تجنيد «النصارى» على يد البرابرة، أن يعود إلى مرحلة المدّ الثوري اليساري في السبعينيات زمن «بدر يمنهوف» (عفواً؟ لعلّ العبقري «الاختصاصي بالحركات الجهاديّة»، يقصد التنظيم الذي حمل اسم المناضلين أندرياس بادر وأولريكه ماينهوف). تقاطعه المذيعة طالبة تحديد الإجابة. ويا عَملة اللي عملتيها يا ريما! صار رجل «الدين» سفيهاً وذكوريّاً وقليل الاحترام، وراح يحرّك سبابته بعدائيّة. «أتمنّى ألا تنفعل» قالت ريما. «انتي حتديني محاضرة والا إيه؟» أجاب الملتحي مزمجراً. المذيعة: «أحدد الحوار كسباً للوقت ولخدمة فكرتك». الملتحي: «أنا أخدم الفكرة التي أريدها». المذيعة: «أنا هنا سيدة الاستوديو، وسيدة الكلام، إذا سمحت». زمجر رجل الكهف، وزجر مريم المجدليّة أن «اسكتي». قالها بتلذذ بالنيابة عن كل الرجال المستمتعين بسلطتهم عبر التاريخ. وهنا قرّرت ريما أن تنهي الفقرة: «كيف يمكن شيخاً محترماً أن يقول «اسكتي» لمذيعة؟». إما أن يكون هناك احترام متبادل أو بلاه الموضوع كله». وطلبت قطع الاتصال. ريما سيّدة الاستوديو بحق! إلى الجحيم إنسان الكهوف ومعه نسبة المشاهدة. والآن… إلى فقرة «السجين المحرر بلال دقماق»! وبلا حجاب…