يلدا يونس تروّض الموت على إيقاع الفلامنكو
بيار أبي صعب

ليس كالمهرجانات الأخرى. لعلّه موعد خاص، عنوان عريض لمغامرة تخوضها بسمة الحسيني في القاهرة منذ العام ٢٠٠٤. هذه الناشطة الثقافيّة المصريّة عاشت طويلاً نوعاً من التمزّق بين مهامها الاداريّة والتنظيميّة، ونشاطاتها على مستوى اقليمي لتمويل الثقافة اعتماداً على مؤسسات أوروبيّة وأميركيّة، وبين ميولها الشخصيّة ورغباتها الدفينة في أن تتولّى بنفسها مهام الادارة الفنيّة والبرمجة، وتنظيم المهرجانات، واختيار الفنانين.
وبعد تأسيس «المورد الثقافي» كان لها ما أرادت... افتتحت «مسرح الجنينة»، وأحيت فضاءات أخرى، عن طريق الشراكة، مراهنةً على جمهور هامشي تنساه الثقافة الطليعيّة غالباً: جمهور شبابي أساساً، فقير غالباً، فتحت له تلك المبادرات البديلة مجال التفاعل مع تجارب فنيّة وابداعيّة بارزة، عربيّة وعالمثالثيّة مختلفة، لا تصله عبر قنوات التوزيع العاديّة. كما شرّعت للشباب أبواب الابداع في الأدب والمسرح وغيرهما... لذا يختلط دائماً في مشاريع الحسيني (بغضّ النظر عن ثنائيّة المموّل والمدير الفنّي)، الهاجس الابداعي والهمّ التربوي والتوجيهي. وهنا تكمن فرادة تجربتها.
«مهرجان الربيع» كان احد تلك المشاريع التي أطلقتها قبل أربع سنوات، لتجد طريقها الى دائرة واسعة من الأفراد، مرّة كل عامين... هكذا قدّمت في القاهرة مارسيل خليفة وأنور ابراهم، قاسم حدّاد أو فاضل العزّاوي، وأيضاً المصريين أمين (فؤاد) حدّاد وبهاء (صلاح) جاهين... وهذه السنة يدخل المهرجان مرحلة جديدة، في دورته الثالثة، بعد أن توسّع ليشمل محطّة عربيّة ثانية، إذ يقيم شراكة ديناميّة مع جماعة «شمس» في بيروت، تلعب فيها الفنانة حنان الحاج علي دور الدينامو والمحرّك والواجهة.
هذه السنة إذاً، ستقام العروض والأمسيات والمحاضرات واللقاءات بالتناوب بين العاصمتين المصريّة واللبنانيّة... ابتداء من مساء اليوم في «دوّار الشمس» الطيّونة حيث يلقي المفكّر البارز نصر حامد أبو زيد محاضرته «الفنّ وذهنيّة التحريم» (السادسة)، فيما يحيي فنان المقام الأذربيجاني الصوفي عليم قاسيموف أمسيته الأولى في «معهد الموسيقى العربيّة» في القاهرة (التاسعة). في الحقيقة «مهرجان الربيع» بدأ في بيروت قبل موعده بأسبوع، مع مسرحيّة «خمسون» للثنائي الفاضل الجعايبي/ جليلة بكّار التي يمكن أن نعتبرها فلتة شوط تقتصر على الجانب اللبناني. وقد وظفت الحسيني علاقاتها الدوليّة، لتأخذ هذه المسرحيّة التونسيّة الاشكاليّة إلى الولايات المتحدة، حيث يحتمل أن تقدّم العام المقبل في «كندي سنتر» لتكون أوّل عمل طليعي في المسرح التونسي والعربي، يقدّم في أميركاقد لا يجد الجمهور المتطلّب في «مهرجان الربيع» سياسة برمجة متماسكة ومتجانسة، تخضع لرؤيا جماليّة أو أسلوبيّة أو فكريّة، وتتجسّد في خيارات متناسقة ومتكاملة كالتي يمكن أن نقع عليها في «أشغال داخليّة» (كريستين طعمة)، أو «نقاط لقاء» (فري لا يسون/ مهما مأمون، اشراف طارق أبو الفتوح). لكن ما همّ؟ ما دام هذا التجميع يمتاز بالتنوّع والغنى والحيويّة، خصوصاً في مجال الموسيقى (راجع مقالة بشير صفير صفحة ١٣) والرقص. ويخلق حالة تفاعل ثقافي بين الجمهور وعدد من الأسماء والتجارب الجديرة بالاهتمام. كما تحتلّ النشاطات المتعلّقة بالذكرى الستين لنكبة فلسطين، جزءاً مهمّاً من المهرجان هذا العام (راجع مقالة نوال العلي في الصفحة ١٣). لكن لنتوقّف الآن عند الرقص الفلامنكو منه والمعاصر. هناك موعد خاص مع فنّانة لبنانيّة شابة، مميّزة، هي يلدا يونس (غداً الجمعة في بيروت، الأحد في القاهرة). تعيد يلدا تقديم عمل مؤثر وموجع ومفاجئ بعنوان «كلا» (No) ابتكرته بالاشتراك مع الموسيقي البارز زاد ملتقى. ويأتي بعدها عرض أساسي لهواة الفلامنكو، يضم لوحات من أعمال الراقصة الاسبانيّة الكبيرة باستورا غالفان (غيتار خوسيه لويس رودريغث، غناء إميليو فلوريدو).
«كلا» ثمرة لقاء بين يلدا وزاد ملتقى. كان هذا الأخير مراهقاً في الحرب الأهليّة، حين سجّل أصوات القصف وزخّات الرصاص من على بلكون والديه (رائدي المسرح اللبناني أنطوان ولطيفة ملتقى). في اليوم التالي أدهش الجميع بهذه «المقطوعة» ثم نسيها على أحد الرفوف، ترك الحرب وراءه ومضى إلى باريس ليصبح مع السنوات من أبرز مؤلفي الموسيقى المعاصرة. حين حدثته يلدا عن مشروع راقص تقدّمه تحيّة إلى الصحافي الشهيد سمير قصير (ذكراه الثالثة في ٢ حزيران/ يونيو المقبل)، استعاد ذلك الشريط الدفين الذي يختزم ذاكرة الحرب المثخنة. انطلاقاً منه وضع توليفة صوتيّة ــــــ إلكترونيّة أقرب الى الموسيقى الملموسة، عليها سترقص يلدا عملها القائم على احتواء الغضب، وتدجين الخوف، وترويض العنف، وتحدّي الموت. ايقاعات وخطوات من وحي الفلامنكو، تكرار رتيب وصولاً إلى ذروة مضبوطة. بدلاً من الانفجار، هناك التلاشي المفاجئ، الفراغ، العدم، الاختفاء عند لحظة الذروة... هذه هي روح الفلامكنو، وهذا خيار تلك الفنانة الرقيقة التي يصعب لمن يلتقيها في الحياة العاديّة، أن يتخيّل أن بوسعها أن تخبط الأرض بقدمها، بهذه القوّة! بعصب مشدود، يلفّها فستان أسود هادل من تصميم ربيع كيروز، تقف وجهاً لوجه مع الموت، لطرده ربّما كما تطرد الأرواح الشريرة في التعاويذ القديمة!
العرض قدّم للمرّة الأولى في افتتاح حديقة سمير قصيرمطلع حزيران / يونيو ٢٠٠٦، أي قبيل العدوان الاسرائيلي على لبنان... وكان أن أرسلت الفنّانة الشابة فيديو عملها مرفقاً برسالة ملؤها المرارة من قلب الحرب، إلى أستاذها ومعلّمها راقص الفلامنكو الاشبيلي Israel Galvan. فما كان من هذا الأخير سوى أن أدخل مقتطفات من الشريط مع رسالة يلدا، في عمله الجديد الذي يدور حول مختلف أشكال «القيامة» الـ Apocalypse عبر تاريخ البشريّة.
لا بد من اشارة أخيرة إلى مشاركة المغربي خالد بن غريب في عرض راقص مع فرقة 2k-far (الصرصاران) بعنوان «لا سمالا بيبي»... وإلى الفنانة اللبنانيّة الشابة نانسي نعّوس التي تعيد تقديم عرضها «لحظة السقوط» (موسيقى وائل قديح) من وحي صدمة عدوان تموز/ يوليو ٢٠٠٦.

«مهرجان الربيع» من ١ إلى ٢٤ أيار/ مايو
البرنامج كاملاً على موقع
[email protected]
للاستعلامات في القاهرة (المورد):
23626748 202 +
وفي بيروت (دوار الشمس): 03،035298