المغنّي الملتزم يكره أميركا ويحبّ هوغو تشافيزأحد أبرز رموز الأغنية الفرنسية الملتزمة. عبَر في بيروت قبل عامين، فحمل ندوبها وأحلامها المحترقة، وكان أن أعطت اسمها لأسطوانته الجديدة. وقفة مع المشاغب والشاعر، اليساري التائه، بعيداً عن الأضواء، على دروب المدنيّة المأزومة
بشير صفير
الزيارة التي قام بها برنار لافيلييه إلى بيروت في شباط (فبراير) 2006، أكثر من محطّة عابرة في حياته: لقد تركت بصماتها على مسيرته الفنية الطويلة. عاد المغنّي الفرنسي إلى باريس تعتمل في ذاكرته صور وانفعالات ومشاهدات من قلب المدينة الصاخبة بتناقضاتها، فترجمها إلى نص شعريّ مطعّم بنظرة نقديّة إلى الواقع. ثم لحن النص، فكانت النتيجة أغنية تنطبع في ريبيرتواره الضخم. حملت الأغنية عنوان «مساء السبت في بيروت» Samedi Soir à Beyrouth، وأعطت اسمها لألبوم كامل ضمّ مجموعةً من الأغنيات الجديدة (راجع البرواز).
ليس السفر استثناءً في حياة هذا الفنّان اليساري، ولا العمل الفني الناتج مباشرة من تجارب الاحتكاك بمجتمعات البلدان التي يزورها. لكنّ تناوله لبيروت في الأسطوانة الجديدة، يتيح فرصة إعادة اكتشاف أبرز محطات حياته الشخصيّة ومسيرته الحافلة بالترحال والاكتشاف والإنتاج. كما يسلّط الضوء على خصائص تجربته الفنية من الجانب الموسيقي وتأثّر نصّه الشعري بميوله اليساريّة والتحريرية ورفضه الاستغلال الطبقي.
يرى بعضهم أنّ التأثر بالأفكار الكبيرة، والحسّ النضالي الرافض للظلم والداعي إلى العدالة، ليسا في النهاية سوى نزعة «رومنسيّة» تنحسر كلّما تقدّم المرء في السنّ (!)، لكن مسيرة لافيلييه هي النقيض الكامل لتلك النظريّة. لقد انتسب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي في السابعة عشرة، وما زال وفياً للمراهق الذي كانه. وها هو اليوم يكتب أغنية يتهكّم فيها على رجال أعمال متعاطفين مع الإمبرياليّة، يتهجّمون على «الرفيق» هوغو تشافيز ويسعون إلى إسقاطه خوفاً على مصالحهم ورفاهية حياتهم في ميامي. من خلال تلك الأغنية يعلن لافيلييه دعمه للرئيس الفنزويلي اليساري، بأسلوب غير مباشر قوامه السخرية، يدعم تشافيز ويفضح أعداءه.
ولد برنار أوليون (اسمه الحقيقي) عام 1946 في سان إتيان في فرنسا، من عائلة متواضعة. كان ولداً شقياً، أُدخل الإصلاحية بعد قيامه بأعمال خارجة عن القانون وهو في الثالثة عشرة من عمره. وفي الفترة نفسها، بدأ العمل إلى جانب ممارسة الملاكمة، وكان يفكّر أنّه سيصبح لصاً، أو ملاكماً، أو... شاعراً. في عام 1965 سافر إلى البرازيل، ثم سجن لمدة سنة بعد عودته في العام التالي، بتهمة فراره من الخدمة العسكرية. وبعد الإفراج عنه، بدأت مسيرته الفنية، فأصدر أولى أغانيه الخاصة عام 1967، ومن ثم أسطوانته الأولى بعد سنة، ونشط في الغناء داخل المعامل في أيار (مايو) 1968... في عزّ الثورة الطلابيّة.
في السبعينيات، بدأ هذا «الرحالة» جولةً حول العالم ما زالت مستمرة حتى اليوم، تخللتها محطات تفاعل مع إثنيات في بيئات مختلفة، وثّقها الفنان الفرنسي في أغانٍ عنونها بأسماء البلدان التي زارها: إسبانيا، البرازيل، سان سالفادور، نيويورك، هافانا، نيكاراغوا، و... بيروت. وإذا انتماء لافيلييه السياسي والاجتماعي يرشح من فنّه، فقد تناول البورجوازية مراراً بأسلوب لاذع، من خلال نصوص مباشرة ذات نفحة يساريّة. وفي أغنية بعنوان CIA (وكالة الاستخبارات الأميركية)، يفكّك هذا الفنان المخططات السرية للوكالة، ويفند طبيعة عملها ودورها في حبك المؤامرات في مختلف أنحاء العالم، وقد صاغ كلمات الأغنية على لسان أحد رجال الاستخبارات.
وقد تبنّى لافيلييه أنماطاً موسيقية عدة لضبط إيقاع أغانيه وتوزيعها. هكذا، تنقّل بين الروك أند رول، والسول والبلوز والروك التطوري، والإيقاعات اللاتينية من سامبا وبوسا نوفا... إضافة إلى الإيقاعات الأفريقية. واحتلّت موسيقى الريغي جزءاً من أغانيه، فهو إلى جانب سيرج غينسبور من القلائل الذين أدخلوا هذه الموسيقى إلى الأغنية الفرنسية، ولو أنّ تجربته لم تكن حقاً بمستوى تجربة مواطنه الراحل. ذلك أن غينسبور هو ألمع الموسيقيين الذين صنعوا الأغنية الفرنسية في النصف الثاني من القرن العشرين، وإذا كان الثلاثي ليو فيرّي ــــ جورج براسينز ــــ جاك بريل تفوّق على صاحب «الترومبون الأسود»، فقد كان ذلك من خلال النصّ الشعري بشكل أساسي، علماً بأنّ الجميع خسر أمام غينسبور في اللعب على الكلام، هذا العرش الذي يتربّع عليه مع موزار و... زياد الرحباني.
كتب لافيلييه على مدى أربعة عقود عشرات الأغاني التي جعلت منه أحد أبرز رموز الأغنية الفرنسية الملتزمة. لكنّ التزامه لم يكبّل إبداعه ضمن أطر محددة محصورة في السياسة فقط. ذلك أنّه يرى إلى الأمور من منظار الهمّ الإنساني الصادق الذي عبّر عنه بسخرية وتهكّم أحياناً، أو بجدّية موزونة عند الحاجة، وبأسلوب مباشر وواضح وجريء. من هذا المنطلق، يمكن إدراج أيّ أغنية لهذا الفنان، مهما كان موضوعها، ضمن خانة الالتزام.
هذا الريبرتوار الضخم يتوزّع على حوالى عشرين أسطوانة مسجّلة في الاستوديو، إضافة طبعاً إلى تسجيلات حيّة لحفلات أحياها منذ السبعينيات، آخرها سبق ألبومه الجديد بثلاث سنوات وحمل عنوان Escale Au Grand Rex. يقال أحياناً إنّ لافيلييه لم يعد يملك التأثير الكبير على الشباب الفرنسي، كما كان أيام مجده في الثمانينيات. لكن الأغنية الملتزمة التي وضع لافيلييه بعض لبناتها، تطوّرت بعده في فرنسا عبر تجارب عدّة، لعلّ أبرزها فرقة Têtes Raides ذات الميول الفوضوية. تلك الفرقة الشابة تعدّ اليوم صاحبة أحد أنضج المشاريع الموسيقية في مجال تجديد الفولكلور الفرنسي وتطعيمه بالحداثة غير المفرطة، وتوظيف الكلمات أيضاً في هذا السياق. ولم يكد الرئيس الفرنسي ساركوزي يصل إلى قصر الإليزيه، حتّى عاجلته فرقة «الرؤوس الصلفة» بأغنية من ألبومها الجديد، تناولت الوضع الاجتماعي للمهاجرين والأجانب الذين بنى صورته على قمعهم وأبلستهم.
أما لافيلييه، فقد عبّر عن رأيه بالرئيس الجديد في حديث مع صحيفة «لومانيتيه» : «متغطرس وسوقي. يقول في قرارة نفسه: أنا تاجر سيارات وأصبحت رئيساً للفرنسيين. يجب أن يتحملوني لمدة خمس سنوات. سأفعل ما أشاء»... ، ويتابع: «أخجل صراحة أن يكون لديّ رئيس مثل ساركوزي». فهل ستتولى كارلا بروني الدفاع عن زوجها في أغنية جديدة؟


أسطوانة Samedi Soir à Beyrouth ـــ إنتاج وتوزيع شركة «باركلي»
www.bernardlavilliers.com


الزيارة إلى زياد الرحبانيأسطوانة Samedi Soir à Beyrouth كناية عن 12 أغنية، تجمع بين الموقف السياسي والنظرة الإنسانيّة والمشاعر الحميمة كالحبّ والوحدة... يغني لافيلييه العالم كما يراه: من منظار يساري لا يخفف من جماليّة اللغة الشعريّة والموسيقى الملوّنة الغنيّة بالمصادر. تطغى على «... بيروت» موسيقى الريغي الجامايكية، إضافة إلى الداب والسول المخفّف والبوسا نوفا البرازيلية، وبعض الإيقاعات والأنسجة الصوتية الأفرو ــ لاتينية.
وقد رأى محرر «لومانيتيه» الباريسي في الألبوم «أجواء شرقية ممزوجة بموسيقى الريغي»، فيما ليس في الأسطوانة أي خاصة شرقية، لا في الإيقاعات ولا في المقامات... باستثناء أغنية بيروت التي يتخلّلها غزف عَرَضي على العود لجمل لا تمثّل بتواليها أياً من المقامات الشرقية، حتى تلك التي لا تتضمن ربع الصوت في أساسها. ويقترب العود من الإحساس الشرقي في توالي كروماتيكي قصير، أو عندما يلجأ إلى نوتة حساسة، يجعل الجملة قريبة من مقام شرقي رغم اختلاف موقعها على السلّم الموسيقي مقارنةً بموقع المقام. في أغنية بيروت يقيس لافيلييه، قبل عدوان تموز، المسافة التي تفصل بين الحجاب والعري، في ليل السبت الذي يرفض أن يصدّق الحرب...