هذا الأسبوع نرصد آخر الإنتاجات المصريّة في مجالات الأدب والفكر. وتبدأ الصفحة التي أعدّها الشاعر والناقد محمد خير، من كتاب إشكالي للباحث بيومي قنديل، يدعو إلى التحرر من قمع الهويّة العربيّة، مؤكداً انتماء مصر لغوياً ومدنياً إلى أفريقيا وأوروبا
محمد خير
كثيراً ما يكتب أحدهم مدافعاً عن «فرعونية» مصر أو «قبطيتها» في مقابل عروبتها، فيجيبه آخر بالرد المعهود «لماذا إذاً كتبت مقالك باللغة العربية؟». لهذا السبب ربّما، اختار الباحث بيومي قنديل أن يستخدم اللهجة العامية في كتابه «دفاعاً عن تراثنا القبطي» (دار ميريت ـ القاهرة) وأهداه إلى «إيريس حبيب المصري: أستاذة تاريخ الكنيسة المصرية في معهد الدراسات القبطية». وهو المعهد الذي تأسس عام 1954 والذي يتبع الكنيسة المصرية القبطية الأرثوذكسية.
من فكرة يراها «بديهية»، ينطلق قنديل في تقديم الكتاب، يلخّص فكرته في اتجاهين تنتمي مصر ـ والمصريون ـ إليهما. الأول هو الجذور العرقية وما يميزها من لغة وأصوات، وفيها ننتمي إلى أفريقيا. أما الثاني، فهو مفاهيم الحداثة والمدنيّة المصرية، ونحن مدينون بها إلى أوروبا.
يسأل المؤلف: «إزاي اكتشف البديهي، بمعنى المعروف؟». يجيب بنفسه: «البديهي دا مردوم عليه ومسكوت عنه، وبلاش أقول مضطهد في مصر، وبالتالي يبقى اكتشافه خطوة يمّ المجهول، موش يمّ المعلوم». والسطران السابقان يلفتان النظر إلى مدى صعوبة التواصل مع «لغة» الكتاب، حتى بالنسبة إلى القارئ المصري. أما القارئ العربي، فهو المعني بعنوان الكتاب «دفاعاً عن تراثنا القبطي». إذ إنّ هذا «الدفاع» هو في مواجهة... الثقافة «العربية ـ السامية»!
لكن لماذا الدفاع في مواجهة الثقافة العربية بالذات؟ لأنّها هي الثقافة التي تحاول «محو» الهوية المصرية! لذا، فإنّ السؤال المحوري و«البديهي» كما يطرحه المؤلف هو «إحنا مين؟». على رغم بساطة السؤال، فإنه ليس سطحياً كما قد يبدو. إذ إن أجوبة المصريين عنه ستكون: «نحن عرب»، «المشارقة هم الأقرب إلينا» و«لغتنا سامية». وهذه المفاهيم الثلاثة بعيدة تماماً عن الحقيقة كما يراها المؤلف. ويستبدل قنديل هذه الأجوبة بأخرى هي: «نحن لسنا عرباً ولا ساميين»، «النوبيون والأمازيغ والبربر هم الأقرب إلينا»، «لغتنا حاميّة».
مع ذلك، فإنّ المؤلف يرفض النزعة الاستبعادية. هو فقط ـ كما يقول ـ يدافع عن خصوصيّة مصريّة. ويرى أنّ العرب في النهاية «أبناء عم» للمصريين، ولغتهم السامية تنتمي مع لغة المصريين الحاميّة إلى العائلة اللغوية نفسها. ويرفع المؤلف شعاراً هو «مع العرب ضد عروبتهم»، و«مع الساميين ضد ساميتهم»، ذلك أنّه يلتزم «تمصير العرب الساميين»، بمعنى «تحريرهم من أسر العصور الوسطى». وما دامت الثقافة حسب تحديده «مجمل البنى العقلية الوجدانية المتعينة في الزمان والمكان»،... فمن الطبيعي أنّه «يجوز للبشر التخلّي عن الثقافة الأدنى»، إذا كانت سبباً للسقوط من هذا المفهوم «الاستقطابي».
يشرح المؤلف أنّه ليس ضد العرب وإنّما ضدّ «العروبة»، ويستعرض مفهوم «تهريم اللغات» أي ترتيبها وفقاً لجذورها اللغوية وحالات إعرابها، متنقلاً من السنسيكريتية إلى اللاتينية فاليونانية، وصولاً إلى العربية السامية الحامية. ومن ثم ينتقل إلى «تهريم الثقافات»، فيفرّق بين الثقافة السامية (العربية ـ العبرانية) والثقافة المصرية ـ الكوشية. «الكوشية منظومة لغات تنتمي إلى القرن الأفريقي». ويلاحظ المؤلف أنّ الثقافة العربية الساميّة تضع المرأة في مرتبة دون الرجل، على عكس الثقافة المصرية القديمة. فهذه الأخيرة تتفوق على ما يميّز السامية التي تنفي الآخر وتخفض من قيمة العقل وتتعامل مع الطبيعة وفق ثنائية «التسلط/ الخضوع» بدلاً عن الترويض.
ويضم الكتاب قسمين أساسيين: الأول بعنوان «خشيم في ميزان العلم»، يرد فيه على كتاب «القبطية العربية» (مركز الحضارة العربية) للباحث الليبي الدكتور علي فهمي خشيم. ويرفض محاولات خشيم إضفاء عروبة «مزعومة» إلى اللغة القبطية، ويناقش مدى صحة ما انتقاه الدكتور خشيم من مفردات مصرية ناسباً إياها إلى جذور عربية، ليعيد قنديل نسبتها من جديد إلى اللغة القبطية. وينتقد المؤلف أسلوب خشيم في «اختراع» المشترك بين القبطية والعربية.
أما القسم الثاني، فجاء تحت عنوان «الهوية المصرية بين القبطية والمسيحية»، شرح فيه المؤلف نيته تناول مفاهيم ثلاثة: «القبط»، «التراث القبطي»، «اللغة القبطية»... ثم «تسييق» هذه المفاهيم و«تمشكيلها» ثم «تمثقيفها»! وهو يعني بـ «تسييقها» وضعها في سياقها «الصحيح»، ما يؤدي إلى تحويل المألوف منها إلى خلافيّ، ويفجر من تحت ثوب البديهيات المطمئنة مشاكل جوهرية ما يؤدي إلى«تمشكيلها». أما «التمثقيف»، فهو «تحويل التراث القبطي بكل مظاهره من أموات ومتاحف ونصوص كنسية إلى ثقافة حية».
ظواهر لغوية وعرقية، تاريخية وسياسية معقدة، يناقشها المؤلف في طموح لا يتناسب مع الحجم الصغير للكتاب (120 صفحة). أما محاولته اجتراح ألفاظ جديدة ـ كأن استخدام العامية لا يكفي ـ فلم يفعل سوى أن زاد القراءة صعوبة وإرهاقاً. ورغم أنه يمس في كثير من المواضع قضايا بالغة الأهمية، وقضايا أخرى تستحق مناقشة مطوّلة ومعمّقة لا يتسع لها المجال هنا (من زوايا منهجيّة وايديولوجيّة، سياسيّة وتاريخيّة)، إلا أن استخدامه لغة استفزازية في بعض الأحيان، لا يمكن أن يكون من قريب أو بعيد سوى مصدر تشنّج وإثارة نعرات، بعيداً عن خدمة القضايا التي يطمح ـ وهذا حقّه المشروع ـ أن يدافع عنها.