حين نتحدث عن الأغنية السياسيّة في المشرق العربي، لا يمكننا إلا أن نتوقّف عنده، بل أن نبدأ منه في كثير من الأحيان. مساء الأحد يعود إلى «الأونيسكو»، مع غيتاره وغضبه (وفرقته)، ليغنّي «عائد إلى حيفا» و«كفركلا» و«شارع الحمرا»
بشير صفير
إنها الإطلالة «الخاصّة» الأولى لرمز من رموز الأغنية السياسية الملتزمة بعد غياب أكثر من ثلاث سنوات. منذ عام 2004، لم ينفرد خالد الهبر بجمهوره، بل اقتصرت إطلالاته على مشاركات مختلفة مع فنانين آخرين في أكثر من مناسبة (ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني، والذكرى الأولى لتأسيس جريدة «الأخبار»). إذاً، ما الذي دفعه إلى إقامة حفلة وحيدة يقدمها منفرداً مع فرقته بعد غد في قصر الأونيسكوبدايةً، من المؤكد أنّ أحد أهداف الحفلة يكمن في رغبة خالد بإعلان مواقف جديدة أو التشديد على ثوابت لازمته منذ وعيه في ظل الحالة السياسية والأمنية على الساحتين اللبنانية والإقليمية. هذا إضافة إلى الضرورة الملحّة للتذكير ببعض الآراء تجاه قضايا اجتماعية وحياتية... وخصوصاً أنّ شيئاً لم يتغيّر بين الأمس واليوم. ألا يستوجب الصمت العربي حيال المجازر في غزّة أن تعود أغنيته «أصنام العرب» لتملأ سماء بيروت من جديد؟ أليس زمن أغنية «فخامة الرئيس» راهناً «أكثر من أيا زمان»؟ وكذلك أغنية «مندفع حقّو فشتري»؟ حتى شارع الحمرا... ماذا بقي منه لكي لا ننعاه في المقطع الأخير من أغنية «الحمرا»، بعدما تستذكر المقاطع الأولى منها الذكريات الجميلة في زوايا هذا الشارع؟ ألا تستدعي «كفركلا» و«أرنون» تحيةً بعد عدوان تموز 2006؟... كل هذه الأغاني القديمة لخالد الهبر سيؤديها مساء الأحد في بيروت، إضافة إلى أخرى جديدة مثل «عائد إلى حيفا»، وقد سمعناها للمرة الأولى في حفلة «الأخبار» الصيف الماضي، وأتت بمثابة موقف مباشر داعم للمقاومة، يستشرف أمل العودة إلى فلسطين المحتلة من خطابات السيد حسن نصر الله.
وإذا كانت الأغنية الملتزمة ترتكز إلى النص الصادق والجدّي، أو الساخر، وعبارات السهل الممتنع في تجربة خالد الهبر، فموسيقاها انحصرت في اللحن، إذ إنّ غياب التوزيع الموسيقي مثّل إحدى نقاط الضعف الأساسية فيها. صحيح أنّ أداء خالد لأغانيه وطريقة عزفه على الغيتار، وألحانه المتأثرة جداً بالأغنية الفرنسية الملتزمة (جورج موستاكي، جيلبير بيكو، جورج براسنس...) تعطيها نكهة خاصة، لكن الكثير منها تتحمل تغييراتها المقامية وجملها اللحنية المتتالية مرافقة موسيقية «أكثر دسامةً» من التي نعرفها في التسجيلات والحفلات السابقة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ أغنية خالد المتأثّرة بالفولكلور الفرنسي افتقدت ـ من ناحية الآلات التي استُعملت لأدائها ـ «الموزيت» (Musette) أو الأكورديون، وهما آلتان متشابهتان بعض الشيء، وأساسيتان في هذا النمط، بسبب قدرتهما على جعل الأغنية ذات الإيقاع السريع أكثر زخماً، والأغنية ذات الإيقاع البطيء أكثر حناناً (أو حزناً وحنيناً)، إضافة إلى طابعهما الشعبي.
والسبب هنا يعود إلى أنّ هذا الأمر لم يكن متاحاً قبلاً. فخالد الذي انطلق في تجربته إبان اندلاع الحرب الأهلية، كان همّه الأوّل إيصال الكلمة/ الموقف بالتي هي أحسن. هكذا، كان خيار خلق الوعي السياسي في الشارع المتقاتل يغلب على إمتاع الناس فنياً. وهنا يأتي المبرر الثاني لإقامة الحفلة، إذ سنستمع إلى أغنيات حفظنا لحنها ووصلتنا رسالتها، بتوزيع موسيقي جديد، تعاون على وضع تصورٍ له عازف الباص عبود السعدي ونجله الموسيقي الشاب ريان الهبر.
من جهة أخرى، يجب التطرّق في المناسبة إلى مصير الأغنية السياسية أو الملتزمة، أي بمعنى آخر جدواها اليوم ومستقبلها. وفي هذا السياق، لا شك في أنّ هذا الفن شهد أغنى تجاربه في لبنان مقارنة بالدول العربية الأخرى لأسباب عدة. لعلّ أبرزها وجود حركة يسارية، شيوعية تحديداً، في مجتمع بلغ أوج ازدهاره الثقافي قبل أن تقضي عليه الحرب. ولا شك أيضاً في أن تزامن انتهاء الحرب الأهلية (ولو ظاهريّاً) مع انهيار الاتحاد السوفياتي، مثّل أهم منعطف في مسار الفن الملتزم منذ أربعة عقود. لذا نعى كثيرون الأغنية السياسية باعتبارها «موضة قديمة» تارةً، ولـ«انتفاء مبررات وجودها» تارةً أخرى، أو عدم تأثيرها على المجتمع، بعدما سيطرت الفضائيات العربيّة على حركة السوق، وفرضت على المستمع العربي معايير ذوقية وجمالية (وإيديولوجيّة) تروّج لكل أشكال الاستلاب.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى الشرح المستفيض لهذا الموضوع الذي قام به المسرحي والشاعر عبيدو باشا (الذي غنّى خالد الهبر العديد من قصائده) في كتابه «موت مدير مسرح/ ذاكرة الأغنية السياسية» (الآداب ــــ2005). لكن من المجحف أيضاً ألا نشير إلى أنّ خالد هو من القلة الذين صمدوا وحافظوا على مبادئهم بعد الحرب، بينما رجع آخرون إلى منافيهم السابقة، وبعضهم الآخر إلى حضن... الطائفة الأم!
هكذا، سيفتح القصر الأحمر بابه بعد غد لأحد مؤسِّسي الأغنية السياسية اليسارية الملتزمة. ويشترك مع خالد الهبر (غناءً وغيتاراً) كلّ من جورج قسيس (بيانو)، عبود السعدي (باص)، ريان الهبر (كيبورد)، غسان سحاب (قانون)، عثمان عياد (عود)، جيريمي تشابمن (سوبرانو ساكس)، إميل بستاني (درامز)، سلمان بعلبكي وخالد ياسين (إيقاعات). كما يشارك في الغناء كورس مؤلف من هالة المصري، وزينب زهر الدين، وعلي صفوان، وسليم لحّام.


8:00 مساء الأحد ـ
قصر الأونيسكو،873971/03


ثلاثة أسئلة
بعض الفنانين الذين عُرفوا بالتزامهم منذ 1975، انفضّوا عن النهج التقدمي بعد الحرب الأهلية. أنت لم تتغيّر!
عرف المشروع الوطني عصر نهضة استثنائية منذ أواسط السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات. وكان بعض الانتهازيين يتسلّقون هذا المشروع، مستفيدين من الإمكانات التي تضعها القوى والأحزاب في تصرّفهم، فضلاً عن الدعاية والترويج... ثم دار الدولاب، فقلبوا ستراتهم، وبحثوا لأنفسهم عن مصادر ارتزاق بديلة بعد تراجع الحركة الوطنية اللبنانيّة، وانهيار الاتحاد السوفياتي. هناك من هرب إلى الموسيقى الصرفة، أو عاد إلى التقوقع في طائفته، أو التحق بأحزاب وتيارات أخرى كانت قد بدأت تكوّن نفوذاً على الساحة السياسية. وهناك من عمل ـ بحجّة النقد الذاتي ـ على التنصّل من ماضيه ليتسنّى له أن يركب الموجة الجديدة.

ما سرّ تماسك تجربتك؟ ألم تستسلم يوماً لإغراءات سياسية بديلة؟
لا أرى في الالتزام سوى حتمية لا يمكنني أن أتخيل نفسي خارجها... لذا لا أستطيع أن أعبّر عن أي مسألة إلا من منظار الهمّ الإنساني. ألتزم بفطرة وبديهية، فالظلم والقهر والجوع وغياب العدالة وعذابات الناس... تولّد فيّ ثورة خارجة عن إرادتي. لا أملك قدرة التغاضي عن هذه الأمور، وأشعر بعجز أحياناً، كما هو الأمر حالياً إزاء ما يجري في فلسطين. سلاحي الوحيد هو الأغنية والكلمة الرافضة للواقع. فكيف أتخلى عن نفسي؟

ألا تفكّر في إصدار ألبوم جديد؟
هناك أغنيات عديدة يعرفها الجمهور من خلال الحفلات، لكنّها لم تصدر في أي تسجيل، وكلها تعود إلى الفترة الممتدّة بين 2003 و2008، مثل: «بوّس»، «أصنام العرب»، «أبانا الذي في السما»، «أكتر من أيا زمان»، «أول أيار»، «عائد إلى حيفا»، «معتقل الخيام»، «18 سنة»... هذه العناوين وغيرها، نعمل على جمعها في ألبوم واحد سيصدر قبل الصيف بالتأكيد.